top of page
بحث

حلب ... الصمود في قلب العاصفة

صورة الكاتب: محمد حسن أطرشمحمد حسن أطرش


حلب

في المنطقة الصناعية الثالثة التي تقع في أقصى الشمال الشرقي لمدينة حلب، حصل (عبد الخالق) على قطعة أرض جيدة في ذروة التسهيلات الهائلة التي قدمتها الحكومة وقتذاك للصناعيين لكي ينقلوا صناعاتهم من المناطق الصناعية في قلب المدينة، إلى المدينة الصناعية الجديدة بمنطقة (الشيخ نجار) في ضواحي حلب الشمالية. هناك أنشأ عبد الخالق معملاً لإنتاج خيوط (البروبلين) التي تصنع أساساً من الحبيبات البلاستيكية، ومنذ العام 2004 يتنامى عمله ويزداد رسوخاً في السوق الداخلية والخارجية على حد سواء، في مدينة اشتهرت تاريخياً بالمنتجات النسيجية، وذاع صيتها في كل أرجاء العالم.

وبعد الحرب الدامية المدمرة التي أتت على الأخضر واليابس في كل المدن السورية بلا استثناء، يستغرب كل المقربين من عبد الخالق استغراباً شديداً إزاء قدرة معمله المدهشة على الاستمرار! فبالرغم من كل الأحداث المهولة التي مرت على مدينة حلب بالذات منذ اشتداد الحرب، لم يتوقف معمل عبد الخالق الكبير عن العمل والإنتاج أبداً، متحدياً كل الصعوبات والعقبات، من تعاقب وتجاذب للقوى المسيطرة على المدينة الصناعية، وانعدام الأمن، وتناقص في إمداد التيار الكهربائي وصولاً إلى انقطاعه بالكامل، والفوضى الهائلة في الطرق المؤدية إلى المدينة الصناعية لإيصال العمال وشحن البضائع ... إلى آخر ما هنالك من عناصر اللوحة التراجيدية التي عانت منها مدينة حلب بالذات خلال الحرب.

لعل معمل عبد الخالق ليس استثناءاً في هذه المعجزة، فالكثير من الصناعيين الحلبيين برهنوا على قدرة مدهشة في الصمود بأعمالهم وصناعاتهم وخاصة في المدينة الصناعية، وذلك بالرغم من كل العمليات العسكرية التي دارت حول المدينة الصناعية وداخلها، إضافة إلى انقطاع الطرقات الرئيسية وتهاوي البنية التحتية، وصعوبة الحصول على المواد الأولية، وهجرة اليد العاملة الخبيرة إلى تركيا التي تقع على بعد مرمى حجر من مدينة حلب، هرباً من جحيم الحرب. وفي ذروة الصراع العنيف الذي شهدته مدينة حلب بين عامي 2012 و2106، لم تتوقف تلك المدينة الصناعية العريقة عن تصدير منتجاتها – وبالأخص النسيجية – إلى كل أنحاء العالم.

يقول عبد الخالق: في بداية انطلاق المظاهرات والمواجهات مع النظام، وما رافق ذلك من تغيرات سياسية عصفت بالمنطقة ككل، خشينا على مصالحنا الاقتصادية – نحن صناعيو حلب – التي وصلت إلى مستوى رائع قبل اندلاع الانتفاضة الشعبية، ولكن الأمر وقتذاك لم يتجاوز مجرد الخوف أو اتخاذ بعض الاحتياطات لا أكثر. لم يخطر ببالنا على الاطلاق أن الأمور يمكن أن تصل إلى ما وصلت إليه من حرب لا تبقي ولا تذر، وبالرغم من كل السيناريوهات التي تخيلناها ووضعناها نصب أعيننا، لم نتخيل أن تتطور الأمور إلى هذا المستوى البالغ العنف والقسوة والتدمير. إلا أن ما فاق أسوأ تصوراتنا وقع بين عشية وضحاها! انقطعت الطرقات الرئيسية، انعدمت الكهرباء والاتصالات، وأصبح الحصول على المواد الأولية حلماً صعب التحقيق.

يتابع عبد الخالق بقوله: كنا أمام خيارين: إما نقل صناعاتنا إلى تركيا المجاورة بكل ما في ذلك من كلف هائلة وشروط صعبة ومخاطرة كبرى على صعيد الجدوى والمنافسة، أو الصمود في أماكننا والتأقلم مع الأمر الواقع والتحايل على الظروف الحالية للاستمرار بأقل ما يمكن الاحتفاظ به من طاقة إنتاجية. الكثيرون – وأنا منهم – لجأوا إلى الخيار الثاني، واختاروا البقاء والتأقلم من الوضع الحالي بكل ما في ذلك من مخاطرة ومشقة. وبالفعل، استطعنا البقاء والصمود بالحد الأدنى. صحيح أن العمل لم يعد جيداً كالسابق، إلا أن مجرد بقائنا واحتفاظنا بأملاكنا وأسمائنا التجارية الكبيرة كان كافياً لنا.

مدينة حلب الموغلة في العراقة والأصالة، صاحبة التاريخ الحافل والتميز الثقافي والاقتصادي على مر العصور، استطاعت تشكيل رأسمالية صناعية قوية منذ خمسينيات القرن الماضي، ليصبح اسم حلب معروفاً عالمياً كلما تعلق الأمر بالخيوط والمنسوجات بأنواعها، وساعد على ذلك المناخ الإيجابي العام الذي خيم على البلاد عقب الاستقلال والاستقرار السياسي، إضافةً للتميز والإبداع المتوافر أساساً لدى أصحاب الحرف العريقة في حلب، أولئك الذين طوروا أعمالهم حتى بات لديهم مصانع ضخمة تصدر منتجاتها الفائقة الجودة إلى العالم كله.

الانتكاسة الأولى للاقتصاد الحلبي المعاصر كانت خلال فترة الوحدة بين سوريا ومصر، حيث أطاحت بضعة قرارات حكومية متهورة بكل التميز الذي وصل إليه القطاع الخاص في حلب، وتسببت في هجرة كمّ هائل من رؤوس الأموال والصناعيين المعروفين. وسرعان ما انهارت الوحدة وانهارت معها القيود التي قيدت اقتصاد حلب، فعادت حلب إلى صدارة المشهد الاقتصادي في المنطقة، ولكن لفترة من الزمن لا أكثر، ليمسك نظام البعث وعائلة الأسد مقاليد الحكم في البلاد، بكل ما رافق ذلك من فساد إداري واقتصادي، وقمع أمني لا يمكن معه أن ينمو أي اقتصاد أو يزدهر، وخاصة إذا ما كان قائماً أساساً على القطاع الخاص الذي منح حلب ألقها وتميزها منذ الاســتــقــلال.

إلا أن الاقتصاد الحلبي استمر في مسيرته وإن بشكل متعثر مخنوق، وذلك خلال فترة حكم حافظ الأسد التي تميزت بالقمع الشمولي العنيف، مع صبغ الدولة بطابع عام من السيطرة الاشتراكية، إضافة للحصار الاقتصادي الذي فرض على سوريا إبان الحرب الأهلية اللبنانية وما رافق تلك الحقبة من قلاقل سياسية كبيرة في المنطقة ككل. تلا ذلك تولي الأسد الابن لمقاليد الحكم في مطلع الألفية الثانية، ولتثبيت حكمه وكسب تعاطف الشارع المحلي والدولي، أجرى بشار الأسد سلسة من الإصلاحات الآنية المحدودة سمحت للاقتصاد السوري والحلبي بشكل خاص أن يتنفس قليلاً، إضافة لجو إيجابي عام أحاط المنطقة كلها في ذلك الوقت. وهكذا شهد الاقتصاد الحلبي طفرة عظمى بعد كبوة طالت، وعادت حلب إلى أضواء الشهرة العالمية ولمكانها العتيد في الصناعات النسيجية عالمياً.

إلا أن قدر سوريا كان يخبأ لها الكثير، ولم يتوقع أي سوري قبل عام واحد فقط من نشوب الحرب أن بلاده سوف تؤول إلى ما آلت إليه من دمار وانهيار للبنى التحتية وتشرد وتهجير ومجازر مروعة. وكان مقدراً لحلب أن تدفع فاتورة كبيرة من فواتير هذه الحرب، من دماء أبنائها وهجرهم لها ودمار بنيتها التحتية بشكل مروع لم يحصل في أي مدينة أخرى! وطبعاً كان لزاماً للاقتصاد الحلبي أن يشهد واحدة من أكبر الانتكاسات الي شهدها منذ أكثر من قرن، ولكن مع ذلك – وخلافاً لكل التوقعات – لم ينهر اقتصاد حلب برغم كل ما أصابه.

إن أهم ما يميز الصناعي أو التاجر الحلبي هو قدرته المدهشة على الالتفاف حول كل العوائق الممكنة، وإمكانياته الهائلة في إيجاد حل لأي مشكلة طارئة، وبشكل مذهل. وبما أن معظم الصناعيين الحلبيين قرروا البقاء في مناطقهم الصناعية بالرغم من كل الصعوبات، فقد أوجدوا طرقاً فريدة لمقاومة تلك الصعوبات على اخلاف أنواعها وتحدياتها. فعلى سبيل المثال، عندما توقف إمداد الكهرباء عن حلب بأكمها – وهو بالمناسبة متوقف تقريباً حتى يومنا هذا – لجأ الصناعيون لاستخدام مولدات ديزل ضخمة قادرة على تشغيل معمل كامل بكل تجهيزاته، وعندما انقطعت الطرقات الرئيسية وتعذر استخدام المواصلات الرئيسية وأصبح من الصعوبة بمكان وصول العمال إلى معاملهم، لجأ أصحاب المصانع إلى إيواء العمال في أماكن مخصصة داخل المعمل او قريباً منه مع تزويدهم بكل ما يحتاجونه من طعام وتدفئة ووسائد وأغطية للنوم، وغير ذلك الكثير والكثير من أمثلة إيجاد البدائل وخاصة في مسائل الطاقة والنقل والمواد الأولية.

ولكن ومع عدم إنكارنا لذكاء صناعيي حلب واقتصادييها وسعة حيلتهم، إلا أن جملة أخرى من العوامل المساعدة أسهمت بدور كبير في صمود اقتصاد المدينة العتيد! فقرب المدينة من الحدود التركية – التي بقيت مفتوحة ولازالت أمام حركة الشحن والاستيراد والتصدير – أسهم بشكل كبير في صمود الصناعة الحلبية إن من قبيل استيراد المواد الأولية، أو من قبيل تصدير المنتجات إلى السوق الخارجية. كما أن اعتماد الصناعة الحلبية على التصدير أسهم بشكل كبير في الاستفادة من فرق العملة الهائل الذي سببه تهاوي الليرة السورية، إذ أن الصناعيين ظلوا يبيعون بنفس أسعارهم بالدولار في الخارج، مستفيدين من فرقه الهائل أمام الليرة السورية التي ظلوا يتعاملون بها في الداخل للحصول على موارد الطاقة ودفع أجور العمال ومتطلبات التشغيل، تلك الكلف التي لم ترتفع كثيراً بالرغم من انخفاض قيمة العملة. كما أن المناطق الصناعية في حلب ظلت بعيدة عن محاور المعارك والاشتباكات في ذروة الصراع الذي شهدته مدينة حلب – ربما باستثناء منطقة (البلليرمون) التي دُمرت ونُهبت عن بكرة أبيها – مما ساعد الصناعيين على البقاء بمنأى عن الأذى ولو نسبياً طوال فترة الصراع.

واليوم، وبعد كل الأحداث المهولة التي مرت – ولاتزال – على مدينة حلب، لا تزال هي المدينة الصناعية المتفوقة في سوريا والمنطقة كلها، ولازال إقتصاديوها يعملون دون كلال على حفظ سمعتها الاقتصادية العطرة بشتى الطرق والوسائل، بغض النظر عن كل التجاذبات السياسية التي تمر على هذه المدينة الباسلة. لازال أهل حلب صامدون فيها، ولازالت من أكثر المدن السورية اكتظاظاً بالسكان وغنىً بالأنشطة بالرغم من كل ما حرمت منه من أمن واستقرار ومتطلبات حياة في السنوات الخمس الأخيرة. يقول عبد الخالق بعد أن انتهى من رواية قصة صموده وصمود معمله: (أذكر أنني قرأت مقولة لأحد الفلاسفة يقول فيها: ما لا يدمرني يقويني! وحلب بالرغم من كل ما أصابها لم تتدمر ولم تنهر، وهذا ما سيجعلها تنهض من كبوتها تلك سريعاً لتعود أقوى وأجمل وأكثر تأثيراً من أي وقت مضى).

٣ مشاهدات٠ تعليق

أحدث منشورات

عرض الكل

Yorumlar


bottom of page