
عندما تدخل إلى معرض دمشق الدولي التاسع والخمسين، ستطالعك في مدخل مدينة المعارض الجديدة أعلام ثلاثة وأربعين دولة تمثل الدول أو الشركات التي شاركت في هذا المعرض الاستثنائي الذي عاد بعد أن غيبته الحرب ليظهر في عام 2017 حاملاً في مضمونه العديد من الرسائل والدلالات، والتي أهمها بكل تأكيد ... تلك الأعلام الموضوعة في مدخل المعرض، والتي يعود نصفها تقريباً لدول يفترض أنها على قطيعة دبلوماسية مع نظام الأسد المعزول دولياً ... فما هي القصة بالضبط؟
بعد خمس سنوات من إيقافه، عاد معرض دمشق الدولي في شهر آب الماضي ليتابع في دورته التاسعة والخمسين مجريات انعقاده الدوري في كل صيف. إذ لطالما كان معرض دمشق الدولي تظاهرة اقتصادية وسياحية هامة في المنطقة ككل منذ تأسيسه عام 1954 أي قبل حكم البعث وعائلة الأسد بعقود طويلة، واستطاع أن يكون بصمةً سوريّةً بالغة التأثير اقتصادياً وفنياً وثقافياً قبل أن يحتكره نظام الأسد كما احتكر كل شيء آخر في سوريا. وفي ظل الحرب التي تسبب بها نظام الأسد - والتي أدت لكل هذا الدمار والتهجير والخسائر الفادحة في الأرواح والممتلكات والاقتصاد - عمد النظام إلى توظيف كل العلامات الفارقة التي ميزت سوريا لكي تصب في مصلحته وتخدم صورته العامة لدى المجتمع الدولي والحاضنة الشعبية على حد سواء ... وهكذا قرر النظام أن يستخدم معرض دمشق الدولي كورقة يستفيد منها ضمن الوضع المزري الذي آل إليه.
لقد كان معرض دمشق الدولي يعتمد أصلاً على كثافة عدد الدول الشقيقة والصديقة المشاركة فيه، في وقت كان فيه الوضع السياسي مقبولاً في سوريا بشكل أو بآخر، أما بعد نشوب الانتفاضة السورية وقمعها الوحشي من قبل نظام الأسد، فقد وصلت سوريا إلى حالة من القطيعة السياسية والاقتصادية مع معظم دول العالم، بما وضع سوريا – التي لا زال نظام الأسد ممثلاً رسمياً وحيداً لها للأسف – في حالة من العزلة عالمياً، مصنفة كمنطقة حروب وكوارث واستقطاب للإرهاب العالمي بكل صوره وانتماءاته.
على هذا الأساس، شكلت عودة معرض دمشق الدولي إلى الظهور رســــــالة مهمة حملها نظام الأســــــــد إلى العالم ... رسالة ذات شقين: الشق الأول هو زعم النظام بأنه استعاد السيطرة الأمنية على معظم البلاد بما يسمح له أن يقيم تظاهرة عالمية هامة كمعرض دمشق الدولي، والشق الثاني هو كثافة الدول التي فوجئ الجميع بمشاركتها في المعرض، بما يعني أن نظام الأسد بدأ يستعيد علاقاته الدبلوماسية – أو الاقتصادية على الأقل – مع عدد كبير من الدول التي تمنح وجوده شرعية لا يستحقها بعد كل ما ارتكب من جرائم بحق سوريا وشعبها.
المفاجئة أساساً ليست من كمّ الدول المشاركة في المعرض، فهناك عدد كبير من الدول التي كانت ولازالت في صف نظام الأسد بالرغم من كل إجرامه، وهناك عدد من الدول التي التزمت الحياد إزاء الحرب السورية محتفظة في الوقت ذاته بعلاقات طبيعية مع النظام. المفاجئة أساساً أتت من مشاركة دول يفترض أنها ملتزمة بمقاطعة نظام الأسد على كافة المستويات، وأهم تلك الدول هي دول منظومة الاتحاد الأوربي، ودول عربية خليجية، أولئك الذين أعلنوا عدائهم للنظام منذ أن بدأ بممارساته القمعية ضد الشعب السوري.
الحقيقة المبدئية في الوقت الراهن تتمثل في أن تلك الدول التي شاركت في معرض دمشق الدولي على الرغم من مقاطعتها الرسمية للنظام لم تشارك بشكل رسمي، وإنما سمحت لبعض لشركات القطاع الخاص بالمشاركة في المعرض باسمها وعلى مسؤوليتها الخاصة، ولكن نظام الأسد استثمر وجود تلك الشركات على أرضه، فرفع أعلام الدول التي تنتمي إليها على أرض المعرض، موحياً بأن تلك الدول بنفسها قد شاركت في المعرض، وأن النظام يستعيد شرعيته وعافيته الدبلوماسية عالمياً.
أما الحقيقة الكامنة فيما بين السطور، فهي أن تلك الدول تقوم بالتمهيد فعلاً لإعادة العلاقات مع النظام، دافعة بجزء من قطاعها الخاص إلى حضن النظام، ليعود نظامها الكامل إليه تدريجياً ويستعيد كل العلاقات الاقتصادية والدبلوماسية بشكل طبيعي. فما الذي تغير؟ وما الذي جعل دول الاتحاد الأوربي ودول الخليج تعيد النظر جدياً في مواقفها من نظام الأسد؟
لا شك بأن امتداد فترة الحرب قد أنهك كل الأطراف الدولية المتصارعة في سوريا، بما دفع العديد منها اليوم للبحث عن حل لإنهاء هذه الحرب مهما كان الثمن، حتى ولو كان هذا الثمن هو إبقاء نظام الأسد مع بعض التعديلات الصورية الطفيفة. هذا من ناحية ... ومن ناحية أخرى فإن ملف إعادة إعمار سورية سيكون غنيمة ثمينة يسيل لها لعاب كل الشركات العالمية بغض النظر عن الموقف السياسي. فلو أصرت الدول المقاطعة للنظام على موقفها – وخاصة بعد رسوخ النظام أكثر وأكثر بسبب الدعم الروسي اللامحدود على كل الصعد – فسوف تجد تلك الدول نفسها بمعزل عن عملية إعادة إعمار سوريا لصالح دول أخرى تنتمي للمعسكر المعاكس.
تلك الحقائق دفعت دول المقاطعة لإعادة النظر بمواقفها إزاء الأزمة السورية ككل، فقررت اتخاذ خطوات تمهيدية لتفوز بنصيبها من كعكة إعادة الإعمار، وكان من أهم هذه الخطوات هو السماح لبعض شركات القطاع الخاص لديها بالمشاركة في معرض دمشق الدولي، وفي تظاهرات اقتصادية أخرى. لتكون بذلك جنباً إلى جنب مع عدد كبير من الدول التي لطالما ساندت نظام الأسد وعلى رأسها روسيا والصين ومنظومتاهما السياسية أو الاقتصادية من الدول التي تدور في فلكيهما، كمجموعة البريكس ودول الديكتاتوريات الاشتراكية الشمولية.
هذا الواقع الاقتصادي والسياسي أجاد نظام الأسد استثماره موظفاً إياه لخدمة البروباغندا الخاصة به، والتي لا تنفك تتحدث عن انتصاراته المتتالية واستعادته السيطرة على معظم أجزاء الأرض السورية منتزعاً إياها من فك (الإرهاب) على حد زعمه، وبأنه خير من يمكن أن يدير سوريا وأن يحفظ الأمن فيها. كما أنه يثبت بذلك بأن الحرب في سوريا قد انتهت الآن، وليس هذا فحسب ... بل انتهت بانتصاره هو! وهذه رسالة إلى العالم أجمع – وخاصة المقاطعين له – بأن الوضع استتب في سوريا الآن، وأنها باتت جاهزة لإعادة الإعمار وللنهضة الاقتصادية، فمن أحب أن يشارك في كل هذا فليتفضل، ولكن تحت نظر وإشراف وسيطرة النظام، وإلا فسوف يفوته قطار الإعمار والاستثمار إلى غير ما رجعة.
هل يعني هذا بأن القصة قد انتهت عند هذا الحد؟ لا طبعاً! فالحرب السورية لم تنته كما يحاول النظام أن يقنع حاضنته والمجتمع الدولي المحيط به، والوضع في سوريا لا زال حرجاً أمنياً واقتصادياً وسياسياً، وبقاء نظام الأسد على سدة الحكم ليس مسألة محسومة بحال من الأحوال. فالمعارضة السورية – بشقيها العسكري والسياسي – لا زالت تناضل بشتى الوسائل لتغيير الوضع في سوريا، وشبح التقسيم لا زال ماثلاً حتى هذه اللحظة، ولازال تنظيم الدولة متغلغلاً في بعض الجيوب الجغرافية على امتداد الخريطة السورية، وروسيا التي تحمي ظهر نظام الأسد سياسياً وعسكرياً واقتصادياً منهكة بسبب تطاول أمد الحرب، ونفس الأمر ينطبق على إيران، وكلتاهما تواجهان الآن مدّاً من الاحتجاجات الشعبية بسبب حربهما اللامسؤولة في سوريا.
سيبقى شبح التطبيع مع نظام الأسد ماثلاً أمام كل الاحتمالات، ولكنه حتماً مرهون بالتغيرات السياسية التي تتحرك بشكل عاصف في كل لحظة، لذلك لن يضمن النظام استتباب أركان حكمه وسيطرته مهما تهافتت الدول والشركات على توقيع الاتفاقيات الاقتصادية معه، ومهما أوصل من رسائل يائسة محاولاً من خلالها أن يقنع المجتمع الدولي بأن الحرب انتهت بانتصاره، وأنه هو من سيدير ملف إعادة الإعمار ... فبكل الأحوال تثبت كل المعطيات يوماً بعد يوم بأنه لازال من المبكر جداً الحديث بشكل حاسم عن خارطة إعادة الإعمار، وأن الكثير من المفاجآت لازال بانتظارنا جميعاً بخصوص سوريا.
Comments