
مجموعة من اعترافات مقاتل معتزل ...
الاعتراف الأول
لم أكن شيئاً قبل ذلك ... ولست شيئاً الآن كذلك!
لكن صوتي الخافت الذي لا يكاد يسمع، ودوري البسيط جداً الذي كنت ألعبه على مسرح الوطن، وباقة من مبادئ وقيم وأحلام كانت منارات دربي البائس، وقلمي التعس المكسور الذي لا أملك سواه ... كلها ... كلها ... كل تلك الأشياء، كانت - على الأقل - عـزائــي الــوحــيـــد.
ولكن المأساة لم تبدأ معي إلا عندما انسحبت من ساحة المعركة ... مأساة جعلتني أعلن موتي - بإرادتي أبو بدونها - لأتوه في رحلة موت سريري أسرتني في غياهبها خلال الأشهر السبعة الماضية، مصارعاً فيها كل غيلان حياة كريهة لا ترحم، في أرض غــريــبــة ... لا تــرحـــم.
حياة عشتها لا كالحياة ... لأنها ليست حياتي بحال من الأحوال، ولأنني لم أكن فيها أنا أبداً، ولأنها مرت على جحيماً لا يطاق بعد أن أخرجت من فردوس معركتي السامية والكفاح النبيل الذي ملئني سعادة أن كنت جزئاً منه.
هكذا انسحبت ... وهكذا متت ... وهكذا دخلت جحيم حياة لا ناقة لي فيها ولا جمل، لتمر على أحداث وأحداث ... ولأجد نفسي أستيقظ ... وأعود فجأة!
استيقظت ... ولكنني لازلت بعيداً عن أرض النضال والرباط ... ومع ذلك، أشعر بومضة خافتة من سعادة تتألق في ردهات روحي المتعبة، لأنني على الأقل ... استيقظت، وبعثت من ذلك الموت المقيت الذي أسر روحي وفكري لسبعة أشهر عجاف.
ها قد عدت في انتفاضة روح فجائية ... مصمماً على العمل من جديد ... في ساحة معركة جديدة ... للهدف النبيل السامي ذاته ... ولعل وعسى .... أن أعود إلى أرض الرباط يوماً ما ... يوماً ما، بعد أن أستكمل كسر كل القيود من حولي!
اليوم .... كسرت ذلك القيد عن روحي وعن عقلي .... وعن قلمي.
وغداً - بمشيئة الله وعونه - سأكسره عن جسدي بأكمله ...
عندها سأعود بكل كياني ... سأعود.
الاعتراف الثاني
سبعة أشهر ... والأوراق تنكرني، وقلمي قد جافاني، وعقلي صحراء قاحلة لا أثر فيها لقطرة فكر! حتى حائطي على (فيس بوك) أصابه الصدع، وتشقق طلاؤه، ونمت عليه الطحالب والفطريات!
سبعة أشهر ... وانا مجرد آلة لا غرض لها إلا اللهاث لصراع حياة جحيمية لا رحمة فيها ولا شفقة ... أضف إلى ذلك انهياراً كاملاً في منظومة الدفاع الخاصة بثقتي بنفسي ... بعد ان ماتت احلام، وذوت أماني، وضاعت حياة بأكملها بالنسبة إلي!
ضاعت حياتي كلها ... كلها، وضاع معها فكري ... وضاع معها المولد الرئيسي لكل ما كتبته وماكنت أخطط لأكتبه! مشاريع رائعة كانت ... لكنها انهرست كلها تحت عجلات الحياة، وضاعت تحت أقدام هذا الجحيم الذي وجدت نفسي في خضمّه.
اليوم عدت ... وعودتي لم تكن فجائية تماماً!
لقد خططت وحاربت كثيراً لأجد منفذاً من هذا الجحيم الذي أسرني ... وكنت أكسر القيود الحديدية عن جسدي وروحي الواحد تلو الآخر .... وها قد أصبحت روحي حرة الآن! ومعها عقلي وفكري ... وقلمي.
وها أنا الآن أعود .... أعلم انني لست كالسابق ... تماماً كعداء اعتزل السباق ردحاً طويلاً من الزمن ... ولكنني عدت على الأقل ... عدت ... مكتفياً بهذا الهذيان السخيف الذي تقرؤونه الآن ... هذا إن قرأه أحد.
عدت ... وها أنا أبدأ عودتي بإعادة طلاء هذا الحائط التعس ... علّي أستمد منه طاقة الأمل للعودة الكاملة ... كلها ... بلا استثناء.
الاعتراف الثالث
لا أبداً .... مأساتي لم تكن في الزواج - مع أن زواجي تم بعد صراع طويل وحصل في ظروف بالغة الصعوبة بعد قصة حب طويلة وعاصفة - ولا في حياتي الزوجية ولا في كوني تزوجت! كل ما في الأمر أن الأقدار شاءت ان يترافق زواجي مع هذه المأساة ومع هذا الموت السريري وهذا الجحيم الذي لا يطاق ... وهكذا ... وبدلاً من ان أصل إلى علياء السعادة بعد ان تزوجت رفيقة دربي ... فوجئت ببراميل الواقع المر التي انهالت تباعاً على أم رأسي، وبدلاً من ان يتفجر قلمي بأعذب الكلم احتفاءً بأميرتي وملهمتي ... جف حبره تحت وهج نيران هذا الجحيم الذي غرقت في أتونه.
لقد كنت أخطط لشيء .... وحصل شيء آخر تماماً ...
وقلائل من أصدقائي من سيفهم ماذا أعنى بذلك ...
هذا إن ....... قرأ كلامي هذا أي أحد منهم!
الاعتراف الرابع
حلب الحرّة ... أيتها السيدة الجميلة العذبة ... تعلمين كم عشقتك وذبت فيك حد الجنون! تعلمين كم وقفت مع كل الواقفين للذود عنك ولكي يعود رونق الحياة إليك! تعلمين أنني قابلت الموت وجهاً لوجه مرات عديدة وانا أسري في طرقاتك عاملاً مع جيش من افكار واحلام لا تنتهي! تعلمين أنني رفضت تركك رغم ألف إغراء وإغراء ... لا مناً ولا رياءً ولا عن شجاعة لا املكها أصلاً .... إنما لأنني أحببتك بكل شغاف قلبي، وكنت حقاً لا أجد السعادة إلا معك سيدتي ... وانت تعلمين ذلك.
وتعلمين كذلك ... أنني ما خرجت منك آخر الأمر إلا مرغماً ... وانت - وحدك فقط - من تعلمين اي تقادير هي التي ألجأتني إلى تركك.
أنت وحدك تعلمين .... ووحدك فقط تلتمسين لي العذر وتبتسمين لي في حنان وتعاطف رغم كل ما ألم بك جراح.
ربما أعزي نفسي بأنني كنت واحداً من أواخر الذين تركوا ثراك الطاهر بعد ان تقطعت بهم الأسباب وقيدتهم عواصف القهر ... ولكن هيهات ... لا عزاء لي إلا بالعودة إليك ... والموت في ساحات بطولاتك الأسطورية.
سيدتي ... لن أعدك وعوداً قد لا أستطيع الوفاء بها ...
فأنت تعرفين أنك أقصى أمنياتي ... وأنني أسعى بكل كياني لأعود إليك.
كوني بخير يا مليكتي .... كوني بخير يا حلب.
Comments