
إذا كنت سورياً، أو عربياً، أو مسلماً بشكل عام وأشمل ... ومالم تكن (تركياً) فقط، فلا يحق لك ركوب موجة (الفرح العارم) بعودة (آيا صوفيا) إلى كونه مسجداً بعد 86 عاماً من قرار تحويله إلى متحف! لماذا؟ سأشرح لكم لماذا، وأثق بأن هذا الكلام لن يعجب جحافل الملايين من المطبلين والمنبطحين والمفلسين وعبيد الأوهام والأصنام.
أولاً وقبل الخوض في أي نقاش حول هذا الأمر، دعونا نجرّد هذا الحدث من أي إسقاط ديني أو عقائدي، ودعونا نتفق على أنه حدث (سياسي) بامتياز! سياسي على الجبهتين الداخلية والخارجية بالنسبة لتركيا فقط، وعلى هذا الأساس من الإسقاط السياسي البحت، يمكن لنا أن نفهم ونقتنع ونوقن بأن هذا الحدث السياسي لن يُفرح – بشكل مشروع ومفهوم – إلا فئة سياسية واحدة في تركيا نعرفها جميعاً ونعرف توجهاتها وطريقة تصرفها.
بناءً على هذا الإسقاط، لا يحق لأي أحد خارج هذه الفئة السياسية التركية أن يفرح، حتى ولو استند فرحه إلى المفهوم القومي الإسلامي الجامع، وهذا الكلام موجه لكل المسلمين في كل أنحاء هذا الكوكب، أما العرب منهم، فاللوم تجاههم أشد ... أما السوريون الذين يطبلون لهذا الحدث ويفرحون به، فاللوم أقسى وأقسى!
الحدث بحد ذاته لا غبار عليه إطلاقاً، وهو عموماً شأن داخلي تركي بحت، وليس كما يحاول البعض تصويره على أنه (فتح مبين) و(نصر مؤزر للمسلمين) ونحن نحيا بالذات في زمن الهزائم والخيبات ... وممن كنا نعلق عليهم آمال النصر أساساً. كلامي هذا كله موجه لهذه الفئة من الناس التي تحاول إضفاء القدسية والعظمة والقيادة والملائكية على فئة محددة بات الجميع يعرفها جيداً ... بينما نحن - السوريون بالذات - لم نحصل منها إلا على الخيبة تلو الخيبة! وبشكل عام أكثر ... كلامي موجه لكل أولئك الذين ارتضوا تغييب عقولهم وسط حمى القطيع وهرج التطبيل والتزمير لفلان وانجازاته ... وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا.
لن أدخل في نقاش الأحقية التاريخية حول آيا صوفيا وتحويله من كنيسة إلى مسجد ... فهذا أمر لا يعنينا في الوقت الحاضر ولن يفيدنا النبش في أقبية التاريخ المظلمة ... ما يعنينا اليوم هو الواقع، وانا أيضاً لا أتحدث عن واقع رغبة (تيار معين) في تركيا بفرض رأي عام محدد في الداخل والخارج، ولا عن قرار هذا التيار بإعادة صفة الجامع لأيا صوفيا – الآن بالذات – فهذه أيضاً شؤون داخلية تركية بحتة لا تخص سوى الأتراك أنفسهم ... إنما كل الكلام الذي ذكرته في هذا المقال منصب فقط على قطعان المطبلين الذين ارتضوا بيع عقولهم بثمن بخس، والجري وراء نصر خلّبي اخترعته نفوسهم المهزومة وأرصدتهم المعنوية المفلسة.
اللوم – كل اللوم - على حشود المطبلين والمفلسين الذين جعلوا من إعادة آيا صوفيا إلى طبيعته القديمة كمسجد (فتحاً مبيناً) و(نصراً مؤزراً)! التصرف بحد ذاته سياسي وسيادي ولا تثريب عليه ... اما قطعان المطبلين والمنبطحين فهي التي تثير الاشمئزاز! وعلى فكرة ... أنا هنا أتكلم عن التطبيل والانبطاح وحمى القطيع، وهي أمور واضحة تماماً وتختلف عن منهجية (الرد على المعسكر الآخر)! الرد يكون بعقلانية ووعي ومنطق، لا بالتطبيل والتزمير والانبطاح الأعمى. ثانياً أنا أساساً ضد تهويل هذا الحدث، ولا أعارض التحويل بحد ذاته وإنما انتقد ردود الفعل (القطيعية) إزاءه. أما من يتكلم عن (الغيرة على الدين) فالغيرة على الدين أمر مفهوم ومشروع، ولكن الانبطاح الأعمى والانسياق خلف حمى القطيع هو المذموم والمرفوض، ولا أرى - ويوافقني الكثيرون في هذه الرؤية - أية غيرة على الدين في التطبيل والتهليل لقرار سياسي داخلي لا يعني إلا الأتراك أنفسهم.
للأسف ... بعض العبيد والمطبلين والببغاوات يحاولون وضع كل من يعترض على غبائهم وعمى بصائرهم التي لا ترى إلا شعاراتهم الجوفاء ... مع نفس خانة المعسكر الآخر الحاقد على كل ما هو إسلامي، والمعترض على أساسات الهوية الإسلامية الراسخة والإرث الحضاري الإسلامي العريق! لأولئك العبيد الببغاوات المراهقين من الفريق الأول أقول: تصرفكم هذا غير مستبعد عن غبائكم وحرارة حمى القطيع التي ابتليتم بها ... وخسئتم، لأن من يعترض على غبائكم ليس حصراً من أنصار المعسكر الذي تزعمون أننا فيه! ليس حتماً (علمانياً وكافراً ومن أتباع زايد ومايد وكايد) ربما كان هذا المعترض على غبائكم أكثر غيرة على الإسلام والمسلمين منكم أجمعين ... فارحمونا من سعار غبائكم بالله عليكم. ولكلا المعسكرين أقول: لن تفهموا (الوسطيّة) ما حييتم ... وحمداً للذي عافانا مما ابتلى كليكم به!
ونهايةً أقول: في حيّ المشارقة الحلبيّ العتيق بمدينتي حلب ... هناك مسجد صغير لا تتجاوز مساحته ثمانين متراً مربعاً يسمى (جامع المزرعة) ... قضيت فيه من الأوقات والذكريات ما لا تكفي الصفحات ولا الحروف لوصفه! صلاة واحدة في هذا المسجد الصغير البسيط المتواضع الواقع في قلب حلب التي يحتلها اليوم الروس والإيرانيون بمباركة (الضامن) تساوي عندي ألف صلاة في أيا صوفيا... أحبَ ذلك العبيد والمطبلون أم لم يحبوه ... وحتماً لن يحبوه! من كان يظن بأن حلب أو دمشق أقل قدسية من إسطنبول أو القدس ... فهو واهم أو عبد أو طبل! كفوا عن المزاودة علينا بالدين كما ظل نظام الأسد ومن قبله نظام عبد الناصر يزاودان علينا بالقوميات والوطنيات لأكثر من سبعين عاماً. كفى عبادة للأوهام وإمعاناً في الانسياق وراء قطيع هنا أو قطيع هناك ... يا أمة ضحكت من جهلها الأممُ.
Comments