
لم يكن (إدريس) يعرف أي شي عن (الخدمات المصغرة) قبل منتصف عام 2015 عندما وجد نفسه فجأة بلا أي عمل بعد أن تم إغلاق المدرسة التي كان يعمل فيها كمدرس للغة الإنكليزية. إدريس شاب آخر كآلاف الشباب السوريين الأكاديميين الذين اضطروا للنزوح من بؤر الصراع الملتهبة إلى دور الجوار، وبحكم قرب تركيا من مدينته الأم (إدلب)، انتقل ادريس إلى تركيا مع زوجته وطفلته الصغيرة، وتنقل في عدة مدن تركية حتى استقر به الأمر في مدينة (مرسين) التركية الملطة على البحر المتوسط. إدريس كان محظوظاً عندما وجد في مرسين عملاً كمدرس للغة الإنكليزية في إحدى المدارس السورية، مما أتاح له العمل ضمن اختصاصه الجامعي ذاته دون أن يضطر للعمل في أشغال عضلية شاقة كما حصل بالعديد من الشباب الجامعيين السوريين الذين نزحوا إلى تركيا ودول المهجر.
إلا أن هذا النعيم لم يدم لأكثر من عام واحد، إذ أغلقت المدرسة السورية التي كان إدريس يعمل فيها بسبب بعض الإشكالات المالية والقانونية، وهكذا وجد إدريس نفسه عاطلاً فجأة بلا أي مصدر آخر للإعالة، وبدون أي فرصة في إيجاد عمل آخر ضمن اختصاصه أو حتى في أي أمر آخر، فحتى لو تحمل عناء وإجحاف العمل في المعامل، فلن يجد هذا العمل في مرسين المدينة السياحية التي لا تحوي الكثير من المعامل والمناطق الصناعية مقارنة بغيرها من الولايات الصناعية في تركيا. وهكذا وجد إدريس نفسه محاصراً ووحيداً في محنة عصيبة لا يدري كيف يخرج منها، إلى أن سمع من أحد أصدقائه عن مواقع (الخدمات المصغرة) التي يستطيع فيها الشخص أن يقدم فيها خدمات معينة على الانترنت مقابل أعمال بسيطة. وهكذا قرر إدريس ان يجرب حظه مع أحد هذه المواقع بتقديم خدمات معينة في الترجمة والتدقيق اللغوي، إضافة لتقديمه خدمات في التصميم الفني بحكم إجادته للعمل على بعض برامج الرسوميات والتصميم على الكومبيوتر. طبعاً لم يحصد إدريس نتائج باهرة في بادئ الأمر، وبالتوازي مع ذلك وجد بالكاد عملاً كعامل في أحد معامل المواد الغذائية في ضواحي مرسين، إلا أنه لم ييأس عن التسويق باستمرار لخدماته المصغرة على الانترنت، والآن بعد عام ونصف تقريباً على دخوله هذا المجال، تمكن من بناء سمعة وجمهور ممتاز له على الفضاء الإلكتروني، وهو اليوم متفرغ بالكامل للعمل في خدماته المصغرة على الانترنت التي بات يحقق منها دخلاً معقولاً جداً.
على صعيد آخر كان (محمود) – وهو رائد أعمال سوري لاجئ في تركيا - في حيرة كبيرة من أمره، فشركته الصغيرة الناشئة للاستيراد والتصدير في مدينة (قونيا) التركية وضعت على المحك عندما تعرف على تاجر باكستاني يريد استيراد كميات كبيرة من البطانيات التركية، غير أن الظروف وضعت محمود في وضع يضطره للحديث مع هذا التاجر حصراً باللغة (الأوردية)، وإلا فإن احتمال خسارته للعلاقة مع هذا التاجر كانت كبيرة جداً! بحث محمود وسط محيطه من الأصدقاء والمعارف عن شخص يجيد اللغة الأوردية فلم يجد، وحتى إعلانات البحث عن موظف يجيد ذلك لم تجد نفعاً أيضاً. في أحد الأيام تذكر محمود بعض التفاصيل التي اطلع عليها عن الخدمات المصغرة عندما اتبع أحد دورات التجارة الإلكترونية في إسطنبول العام الماضي، فقرر أن يجرب حظه في البحث عمن يجيد الترجمة بين الأوردية والعربية ضمن آلاف الخدمات التي تقدمها تلك المواقع، وبالفعل، تواصل معه بعد يومين شاب مصري عاش فترة طويلة في باكستان، وأبدى استعداده لترجمة كل الرسائل والوثائق والعقود التي يريد محمود ترجمتها، وبسعر زهيد جداً. وهكذا كسب محمود كل صفقاته مع تاجره الباكستاني، وتوطدت علاقته مع مترجمه المصري الذي كانت الخدمات المصغرة هي الواسطة التي قادته إليه.
ماهي الخدمات المصغرة أو الـ (GIGS) كما يطلق عليها في عالم الانترنت الرحيب؟ الخدمات المصغرة – كما توحي التسمية ذاتها – تعني المهام الصغيرة جداً والمدفوعة بأسعار رمزية ملائمة لمدى صغر تلك الخدمة، وأفضل كلمة يمكن أن تدل على الخدمة الصغيرة هي (مهمَة) وذلك لأن كلمة (وظيفة) قد تعني التوظيف وما يتضمنه من عقود وإجراءات وتأمينات وضرائب وغير ذلك، بينما الخدمات المصغرة ليست للموظفين إنما مخصصة للمتعاقدين أو المستقلين فقط، والذين يعملون غالباً عبر الانترنت.
إن المفهوم الأساسي للخدمات المصغرة يمتد عبر العديد من الأنواع المحتملة للخدمات الصغيرة التي قد تشمل الترجمة والتدقيق والتحرير والتصميم والبرمجة والجدولة والاحصاء والتعليم والترويج وغير ذلك من أي شيء يمكن أن يخطر على بالك. وكل تلك المهام الصغيرة يمكن أن تتم كلياً عبر الإنترنت ولا تتطلب التفاعل مع العالم الواقعي، وذلك بإعلان المشترين لهذه الخدمات ضمن مواقع مخصصة للعثور على شخص مستعد للقيام بالمهمة، أو أن يقوم بائع الخدمة نفسه بعرض خدماته وانتظار المشترين المناسبين لكل من خدماته تلك.
بشكل عام تنفذ هذه الخدمات مقابل مبالغ يسيرة، لكنها تتطلب أيضاً القليل من الوقت فقط للتنفيذ، ويتراوح الأجر لهذه الخدمات في أي مكان من سنت واحد وحتى 50 دولاراً، والفكرة أن متطلبات العمل ينبغي أن تكون بالتناسب مع الرسوم المعروضة، امتثالاً لقاعدة في عالم الاقتصاد مفادها: من أجل كسب المال يجب أن تعمل بسرعة وأن تقوم بالعديد من المهام على قد استطاعتك. معظم مواقع الخدمات المصغرة تدفع نقداً – عن طريق الحسابات البنكية إلكترونياً أو عن طريق الحوالات - ولكن البعض الآخر يدفعها بشيء آخر غير النقد، مثل بطاقات الهدايا أو مكافأة النقاط أو الخدمات، ويحسب الأجر غالباً بالدولار الأمريكي.
طبعاً يكسب الموقع ذاته عن طريق أخذ عمولة بسيطة من كل خدمة يتم بيعها بين طرفين، ولكن الجميل في الموضوع أن كلاً من بائع الخدمة ومشتريها يحصلون على مبتغاهم ضمن معادلة سلسة من السعر والسرعة، وبعيداً عن أي هوامش ضريبية أو تعاقدية معقدة، وهذا ما جعل العديد من رجال الأعمال وأصحاب المصلحة يلجؤون مؤخراً إلى تلك المواقع للحصول على خدمات يحتاجون إليها دون ان يضطروا للالتزام مع موظف أو التعاقد مع شركات تقدك هذه الخدمات بمبالغ طائلة مقارنة بالمبالغ الزهيدة التي تتوافر على تلك المواقع. بالمقابل وفرت تلك المواقع فرص عمل هائلة لملايين الشباب حول العالم ممن يرغبون بالعمل بمفردهم دون الحاجة إلى أي رأسمال أو بنية تحية باستثناء مجرد جهاز كومبيوتر موصول إلى الانترنت، وهما شيآن باتا متوافران لدى معظم الناس في كل مكان. عربياً اشتهر موقعا (خمسات) و (أي خدمة) في مجال الخدمات المصغرة، وعالمياً هناك موقع (Fiverr) وموقع (SEO Clerk).
وكغيرها من آفاق ريادة الأعمال، كانت الخدمات المصغرة مجالاً رحيباً قصده الشباب السوريون في ظل محنتهم وتفرقهم في دول اللجوء وما رافق ذلك من تحديات شاقة للعيش في تلك الدول. فطبيعة الخدمات المصغرة التي لا تحتاج إلى أي رأسمال أو مقر أو معدات – لا تحتاج إلا للخبرة والنشاط والإصرار – دفعت بالشباب السوري الموهوب أو المثقف للعمل على الانترنت في مجال الخدمات المصغرة هرباً من وطأة العمل في المعامل والورشات في ظل ظروف قانونية واجتماعية منعتهم من العمل بوظائف ملائمة لتخصصاتهم في دول اللجوء. وبالمقابل فإن الخدمات المصغرة كانت مقصداً ممتازاً لرواد الأعمال السوريين الناشئين الذين يبغون خدمات معينة ومحددة لتسيير أعمال شركاتهم ومشاريعهم الصغيرة الناشئة دون أن يضطروا لتحمل أعباء موظف مخصص لهذه الخدمة أو للتعاقد مع شركة تقدم هذه الخدمة بمبالغ ثقيلة على كاهل مشاريعهم الوليدة.
يقول إدريس في خضم تجربته الناجحة في العمل بالخدمات المصغرة: "قد يبدو الأمر غير مجد ٍ أو مغر ٍ في بادئ الأمر، فسوف تستغرق وقتاً طويلاً لكي تسوق لخدماتك وتثبت جدارتك وتكسب أكبر عدد ممكن من الزبائن الذين يسعون للخدمة التي تقدمها. تحتاج فقط إلى الصبر والإصرار والمثابرة، كما ستحتاج أيضاً إلى قدر جيد من التميز والإبداع للتفوق على آلاف المنافسين غيرك، ولكن ثق بأنك لو كنت تملك موهبة أو مهارة أو خبرة يمكن أن يستفيد منها الناس، فعالم الخدمات المصغرة على الانترنت هو العالم الملائم حتماً لطموحك ومشوار تميزك وتطورك المادي والمعنوي".
Comments