top of page
بحث

قصة أميرة

صورة الكاتب: محمد حسن أطرشمحمد حسن أطرش

تاريخ التحديث: ٢٦ يوليو ٢٠٢٣


قصة أميرة

عمرها أكثر من أن يعد أو أن يحيط به بشر ... ربما وجدت منذ الأزل، منذ بدء التكوين، ربما قبل أن ينفث العلي القدير روحه في صلصال آدم، بل وربما كانت رفيقة آدم ذاته منذ أن وطئت قدماه دنيانا! عجيبة السر، آسرة الجمال، تحفل ذكراها بملايين القصص التي كانت بطلتها ... وأميرتها.

اليوم ... سأحكي لكم قصتها، ولأن الوقت لا يسع لسرد كل قصتها منذ الأزل، لأنها تحتاج أزلاً بحد ذاته، فسأحكي لكم قصتها منذ خمسمئة عام فقط ... مروراً إلى يومنا هذا.

منذ خمسمئة عام أو يزيد، تعهد الجد الأكبر برعاية الأميرة وحمايتها، وعاشت في كنفه أربعمئة عام بالتمام والكمال، كانت في مجملها سعيدة هانئة، وكانت خلالها تنعم بحماية هذا الجد الصارم الحاني في آن معاً، وإن كان قد أسرها في قلعته، ومنع شدوها من الارتقاء وألقها من التوهج، إلا أنها لم تعرف في عهده ضيماً، ولم يجرؤ أي وحش من وحوش الجبل على الاقتراب منها في عهدته، كما أن سادة القصر البعيد – الطامعين بها – كانوا يهابون الجد، فيكفون عن مضايقتها والطمع بسحرها وجمالها الفاتن.

إلا المرض بدأ بالفتك في جسد الجد وروحه في آن معاً، كما أن أبناءه بدؤوا يوغرون صدر الجد ضد أميرته الجميلة، الأمر الذي جعله يزداد قسوة عليها، بل ويزداد حماقة وتخبطاً في كل قراراته ... الأمر الذي أجاد سادة القصر استغلاله أيما استغلال، منتظرين اللحظة التي ينهار فيها هذا الجد الشامخ من تلقاء نفسه بسبب علله وامراضه وجنونه.

وفعلاً، اتى اليوم الذي انهار فيه الجد، ومعه انهارت قلعته، وعندها فقط أحس أبناؤه بالندم على إفساد عقل جدهم وتدميرهم إياه، ولكن أي ندم، بعد أن أصبحوا أسرى لدى سادة القصر، ومعهم ... أصبحت الأميرة أسيرة أيضاً لدى سادة القصر، إلا أنهم – والحق يقال – أحسنوا معاملتها بالرغم من أسرهم إياها، ولم تختلف حياة الأميرة في كنفهم عن حياتها بين يدي الجد إلا في شكل الجدران المحبوسة داخلها ... وإن اختلفت أيضاً في المقصد من الأسر نفسه، فالجد أسرها حباً بها وخوفاً عليها، أما سادة القصر فقد حبسوها طمعاً بامتصاص رحيق جمالها والتمتع به إلى أقصى حد.

إلا أن أمراً آخر قد طرأ، فسادة القصر – مع جشعهم الذي يفوق الوصف – سرعان ما اقتتلوا فيما بينهم، بل إن عواقب اقتتالهم سرعان ما عمت الأرض كلها، لتغرق تلك الأرض الكبيرة بالدماء والدمار والنار. وبعد أن هدأت فورة الحرب والاقتتال بين سادة القصر، تولى سادة جدد زعامة القصر، وكان أن أطلقوا سراح الأميرة من أسرها في قرار مفاجئ للجميع ... وحتى للأميرة نفسها.

أحلام عظيمة غزت فؤاد أميرتنا، والمستقبل الزاهر الأرحب بكل ما فيه كان أمامها، ومعها ... بدأ فرسان أشداء مخلصون من أبناء الأرض برعايتها وحمايتها، بل وحتى إعادة الألق إليها بعد قرون من الأسر. وفعلاً، نجح أولئك الفرسان أيما نجاح، نجاح أثار حتى إعجاب سادة القصر أنفسهم، وبدا أن الأميرة ستستعيد أيام مجدها وأقصى ألقها كما كانت في الماضي الجميل المجيد.

إلا أن الأقدار كانت تخفي أياماً عصيبة للأميرة وفرسانها ... ففي عتمة من التاريخ، وغفلة من حراس الزمن، انسل أحد وحوش الجبل بين فرسان أميرتنا ... تظاهر بأنه واحد منهم، وأجاد تخفيه بينهم ليصل إلى ما يريد من غاية خبيثة بحق الأميرة ... غايات لم يتخيل أحد مدى بشاعتها وشناعتها طوال آلاف السنين من عمر تلك الأميرة الساحرة!

وشيئاً فشئياً، كان شأن هذا الوحش يعلو بين الفرسان، ورويداً رويداً كان يحيك المؤامرات بينهم، ويتخلص منهم الواحد تلو الآخر، ومع كل فارس يتم التخلص منه، كان يستجلب من أعالي الجبل وحشاً آخر من بني جنسه ليحل محل الفارس النبيل المخلص ... هكذا، حتى استيقظ الناس من أتباع الأميرة في يوم من الأيام، ليجدوا الوحش وعصبته قد أقصوا كل بلاط الفرسان المخلصين الشرفاء، وحلوا محلهم بالكامل، بل وحتى غيبوا الأميرة في غياهب الأسر من جديد.

هذه المرة ... لم يأسر الوحش الأميرة في قلعة أو في قصر، بل أسرها في مغارة مظلمة عفنة قذرة في أعالي الجبل، وكان كل يوم يسومها مع وحوشه أبشع أنواع العذاب، ويتناوب على اغتصابها والتنكيل بها مع كل بني جلدته الملاعين السفلة، ليفرغ فيها كل حقده ونذالته وسفالته ... حقد معتق مختمر على مدى قرون طوال ... قرون انتظرها بفارغ الصبر لكي تأتي بعدها هذه اللحظة الظلماء.

سادة القصر لم يسكتوا، وسألوا الوحش مراراً عن مصير الأميرة، إلا أنه كان يقنعهم بكل خبث ودهاء أنه يخبئها في مكان أمين ليحرسها ممن يتربص بها، وكان بعضهم يصدقه، بل إن بعض السادة منحه مباركته وحمايته! ومرت الأيام ... والأميرة يذوي ألقها ويخفت ضياءها رويداً رويداً ... كان صوت صراخها تحت التعذيب يصم أسماع الناس من أتباعها، وكانوا يبكون بحرقة، ويألمون أشد الألم لحال أميرتهم، إلا أنهم لم يجرؤوا على الإتيان بأي حركة ولا حتى مجرد الاعتراض أو السؤال عن مصير أميرتهم، خوفاً من بطش الوحش وعصبته التي لا تخاف الله.

حتى أتى ذلك اليوم المجيد ... أحفاد لأولئك الفرسان النبلاء المخلصين الأوائل ... أحفاد اندثروا بين الناس وعاشوا منسيين، إلا أنهم تربوا على إرث أجدادهم المؤسسين ولم ينسوا ثأرهم مع الوحش وعصابته! وعلى ذكر الوحش ... نسيت أن اخبركم بأنه قد مات، فقامت عصبة الوحوش بتولية ابنه زعيماً من بعده، ورغم أن هذا الابن كان أحمقاً وقاصراً وسفيهاً، إلا أنهم دعموه بوجودهم وببطش سطوتهم، تاركين إياه مجرد رمز لذكرى أبيه الوحش الأكبر ... لا أكثر.

وهكذا، قرر أحفاد الفرسان أن ينتفضوا في وجه عصبة الوحوش وزعيمهم الوحش الابن، وكان أن أشعلوها ثورة في وجوههم لا تبقي ولا تذر، ثورة جعلت كل الناس وأبناء الأرض ينتفضون بدورهم، بعد أن عاشوا نصف قرن تحت ضيم عصبة الوحوش وسطوتها الكريهة! قرروا أن ينتفضوا جميعاً مطالبين بخلاص أميرتهم من الأسر البشع، وعودتها إليهم متألقة جميلة شادية كسابق عهدها، وكانوا يظنون بأن عصبة الوحوش ستشعر بالهلع بعد أن رأت غضبة الناس وانتفاضتهم، بل وأيقنوا بأن سادة القصر سيدعمونهم حالما يرون انتفاضتهم في وجه الوحوش، ولكن...

لم تردع قوة الناس تلك العصبة القذرة، ولم تخفهم مطالب الأحفاد الشرفاء المخلصين! اغتر الوحوش بما لديهم من عدة وعتاد وتوحش، فأعملوا بالناس ضرباً وقتلاً وتنكيلاً كما لم يفعلوا طوال حياتهم واستقدموا من أعالي الجبال وحوشاً أخرى عاونتهم في سحق الأحفاد الثائرين! استنجد الأحفاد بسادة القصر، استصرخوا مددهم وعونهم في مواجهة الوحوش، إلا أن سادة القصر اكتفوا بالوقوف على شرفات قصرهم والتلويح للأحفاد متظاهرين بالود، ومتباكين على مأساتهم بدموع تماسيح، دون أن يحركوا ساكناً ضد تلك الوحوش المتغطرسة المتجبرة، إلى أن أيقن الأحفاد أن أولئك السادة لم يبقوا ساكنين أمام مأساتهم ومأساة أميرتهم فحسب .... بل أيقنوا بأنهم راضون عن كل ذلك، داعمون للوحوش في مسعاها وممارساتها الكريهة البشعة.

ومنذ ثماني سنوات حتى اليوم، لا يزال الأحفاد ثائرين، لا زالوا يطالبون باستعادة أميرتهم ... والأميرة تسمع صرخات ثورتهم المقدسة، تسمعها وتسفك لأجلها دموعاً تضاف لدموع ألم التعذيب والاغتصاب، وسادة القصر مستمرون بنفاقهم ... يعطون الزهور للأحفاد بيد، ويمدون أيديهم بالحديد والنار إلى الوحوش باليد الأخرى، بل وحتى تفتق فكرهم الألمعي عن فكرة جديدة: فلم لا نلبس الوحوش لباساً جديداً زاهي الألوان يخفي قبحهم ودمامتهم، بحيث يتقبل أبناء الأرض وسادة القصر جميعاً وجودهم بيننا في هذه الحياة؟ ولننتهي من هذه الثورة اللعينة التي صدعت رؤوسنا! والأميرة؟ فلتذهب الأميرة إلى الجحيم ... إنها لا تعنينا!

وهكذا ... تستمر قصة تلك الأميرة، قصة لا كغيرها من قصص الأميرات ذات النهايات السعيدة، والتي تحكى للأطفال في المهد، وتداعب خيالهم الغض لتتغلل في أحلامهم الهانئة! إنها قصة أليمة، عصيبة، بالغة الظلام والسوداوية، ونهايتها ليست بالضبط نهاية حزينة ... إنما هي نهاية مفتوحة! مفتوحة على كل الاحتمالات والنهايات ... فالتاريخ لا يزال ممسكاً بقلمه، وهو يكتب بلا هوادة! قد تنتهي هذه القصة إلى انتصار الأحفاد الشجعان ... أحفاد الفرسان المؤسسين، وتخليصهم لأميرتهم، لتعود كما كانت وأجمل، لتعود إلى ذات أيام الفرسان المؤسسين، عزيزة قوية يحسدها حتى سادة القصر على سطوعها وألقها وشذاها، وقد يهزم وحوش الجبل إلى غير ما رجعة، لينتهي الناس للأبد من شرهم اللعين الأسود.

أقول قد ... وهذه الـ (قد) تأتي مضمخة بكل ما لدي من أمل، ومن حنين، ومن شوق لتلك الأميرة الجميلة الأسيرة.


٢٢ مشاهدة٠ تعليق

أحدث منشورات

عرض الكل

Comentários


bottom of page