
لطالما كانت الثورة السورية بكل أبعادها وتعقيداتها وأطرافها منصّة عالية لاستعراض واحدة من أسوأ الصفات التي تحكم عقل البشر في زماننا هذا، ألا وهي (سياسة الكيل بمكيالين) أو ازدواجية المعايير إن جاز لنا التعبير! وهي صفة ملازمة للإنسان، ومعبرة بشدة عن ظلمه وقصور تفكيره الأرضيّ وافتقاره للعدل والحكمة وصحة القياس، وهي ليست صفة ملازمة للحكومات كما قد يتخيل البعض، بل هي صفة قد يصطبغ بها شعب كامل من الشعوب إذا شاءت حكومته أو أراد إعلامه بأن يغيّب وعيه ويفقد قدرته على التمييز والحكم على الحدث.
وفي ظل الحدث الأبرز في مرحلتنا الحالية ... الحدث الذي ملأ الدنيا وشغل الناس وأطلق العنان لكل أنواع الخلافات الفكرية وتناقضاتها من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، ألا وهو عملية تركيا في منطقة الجزيرة السورية، والتي حملت اسم (نبع السلام) الزاخر بالتناقضات في حد ذاته، في ظل كل ذلك... ظهرت سياسة الكيل بمكيالين بأوضح صورها، وأكثرها شراسة وإيلاماً، بشكلها الصارخ الواضح المباشر، ولدى الجميع بلا أي استثناء، أنظمة وحكومات وأحزاب وأجهزة إعلام وشعوب، بل وحتى على صعيد كل فرد فينا.
وبالرغم من أن ازدواجية المعايير قد تجلت عدة مرات لدى حكومات وشعوب العالم إزاء الثورة السورية في معظم مراحلها الطويلة وأحداثها الهامة، إلا أن ما يجعلها واضحة وصارخة وجديرة بالتعليق والتحليل فيما يخص (نبع السلام) هو أن ازدواجية المعايير قد أتت هذه المرة من جميع الأطراف المعنية، حكومات وشعوباً ومنصات إعلامية، والأكثر من ذلك، أن كل طرف قد مارس ازدواجية المعايير من وجهة نظره، كلٌ بحسب أهدافه ومصالحه وعقيدته وفكره.
وعليه، ووسط زحمة الأحكام والأقاويل والموازين المكسورة، يجب أن تبقى بوصلة السوري الوطني النزيه هي ثورته، ثورة شعبه التي هبت لنيل حرية وكرامة هذا الشعب، ونيل استقلال وطنه بشكل حقيقي، والنهضة به لينال ما يستحق من مكانة بين الأوطان والأمم، وبناءً على هذه البوصلة الثورية النقية، ينبغي على السوري الثائر أن يبني جميع أحكامه ومواقفه ومعاييره، وأن يُخضع سياسة الكيل بمكيالين لدى كل الأطراف لهذه البوصلة، لكيلا يضل طريقه في زحمة الأصوات والمواقف.
الحقيقة الراسخة التي يجب أن نؤكدها قبل كل شيء، هي أن تنظيمات (PKK / PYD / YBG) عبارة عن أوجه لكيان واحد إرهابيّ محتل قد بسط سيطرته في غفلة من الزمن على كامل منطقة الجزيرة السورية، ليحكم المنطقة – الزاخرة بالخيرات والثروات – بالحديد والنار، ويرهب أهلها من كافة المكونات السورية ويخضعهم لفكر وأيديولوجيا بعيدة كل البعد عن ثقافتهم وعقيدتهم وأسس عيشهم المشترك... كيان وقف في وجه ثورتنا المحقّة، وطعنها في ظهرها أكثر من مرة، وكان عدواً صريحاً ومباشراً لها، بل ولم يتورع عن وضع يده في يد أعداءها للوصول إلى ما يريد من أهداف.
هذا الكيان الإرهابي الغريب عن السوريين والكارة لثورتهم قد قام عبر تاريخه القصير المشين بقتل واعتقال المئات من الثوار السوريين، وسلّم عشرات الثوار المعتقلين لديه إلى نظام الأسد ليلقوا مصيرهم المأساوي المحتوم، كما قام بقتل وتشريد وتهجير عشرات الآلاف من السوريين، لينفذ مخططاته الخبيثة، وليكون كياناً سرطانياً غريباً في جسم سوريا، لا يفرق في شيء عن دولة الكيان الإسرائيلي التي ظهرت كالسرطان في جسد العالم العربي منذ مطلع القرن الماضي.
وبالمقابل، يجب أن نؤكد كثوار سوريين مخلصين لسوريا ولكل أبناءها بأن إخوتنا السوريين الأكراد بريئون من هذا الكيان وكل ممارساته وأفكاره وأطماعه، بل هم أكثر مكون سوري عانى من ويلات هذا التنظيم وبطشه، لذلك يجب علينا التأكيد ألف مرة على أن عداوتنا وكرهنا لهذا الكيان لا تعني أن نعامل إخوتنا الأكراد بذات الموقف، بل يجب علينا الفصل التام ما بين موقفنا من هذا الكيان، وموقفنا من أكراد سوريا الذين يشكلون مكوناً أصيلاً وحيوياً وعزيزاً من مكونات الشعب السوري، بل وفيهم الآلاف من الثوار الذين وقفوا مع صيحات الحرية الأولى منذ انطلاقة الثورة السورية.
وبناءً على بوصلتنا الثورية – والبوصلة الثورية الوطنية فقط – سيكون هذا موقفنا الثابت من ذاك الكيان المعادي، وسيكون كذا موقفنا من إخوتنا الأكراد، وعليه ... فمن الطبيعي أن نكون مع أي عمل عسكري أو سياسي يقصي الغمامة السوداء لهذا الكيان الغاصب عن أرض وطننا، ويضع حداً لممارساته الشنيعة بحق الشعب السوري في منطقة الجزيرة السورية بشتى مكوناتها وأطيافها، ولكن ...
ولكن تأييدنا لعملية (نبع السلام) التي أطلقتها تركيا للقضاء على هذا الكيان يأتي مشوباً بشيء من المرارة والألم! إذ لا نستطيع أن نتمالك أنفسنا – كثوار سوريين – ونحن نرى كيف حشد (حليفنا) التركي كل قواه وثقله العسكري، بل وحتى كيف تمكن من توحيد كل الفصائل العسكرية للثورة السورية في بضع ساعات بهدف مساندته، بينما لم تنل محافظة إدلب – أو غيرها من المحافظات السورية التي احتلها نظام الأسد وحلفاءه – مقدار ربع هذا الحشد وهذا التجهيز وهذا التوحيد وهذا الدعم اللامحدود!
يكتسحنا شعور المرارة والخذلان، ونحن نرى كيف ترزح إدلب تحت رعب القصف الأسدي الروسي ليل نهار، بكل من فيها من ملايين المدنيين العزّل، دون أن تهب جيوش (الحلفاء) لنجدتها، ودون أن تتوحد (الفصائل الثورية) للذود عنها كقوة ضاربة منظمة مدعومة من المجتمع الدولي في وجه غطرسة الاحتلال الروسي والنظام الأسدي.
لا نستطيع – كثوار – إلا أن نشعر بالألم، بعد قرابة تسع سنوات من عمر ثورتنا التي سقط فيها مليون شهيد، وتهجّر فيها عشرة ملايين انسان، وصارت فيها مدننا وقرانا ركاماً ودماراً، ونحن نصرخ طالبين العون من القريب قبل البعيد، دون أن يسمعنا أحد، ودون أن تهب أي جيوش لنجدتنا وتخليصنا من العدو الحقيقي لنا، ذلك العدو الأشد فتكاً والأكثر دموية من كل كيانات "قسد" ومن كل التنظيمات الانفصالية، ذلك العدو الذي كنا فعلاً بحاجة للخلاص منه لكي نعيش ونحيا ولا نكون عالة على غيرنا من دول الجوار، ذلك العدو الذي كان أصلاً سبب تهجيرنا وتشردنا في أصقاع الأرض، ذلك العدو الذي كان هو أسّ التقسيم والمؤامرات الدنيئة، ذلك العدو الذي هو نظام الأسد، ولا أحد سواه.
نحن نعرف حتماً مدى خطورة (قسد) وميليشياتها علينا وعلى وطننا وثورتنا، إلا أنه – ومن منظور إنساني بحت – فخطورة (قسد) على بلادنا وأهلنا ومستقبلنا لا تشكل عُشر خطورة نظام الأسد، وما استجلبه إلينا من احتلالات روسية وإيرانية وميليشيات مرافقة لهم جميعاً، بكل ما لديهم من حقد ولؤم وشهوة لسفك الدم وطمس الهوية وسلب الخيرات والثروات.
كنا نتمنى – كثوار سوريين – أن نرى ولو ربع التهليل والتأييد الذي هبّ (إخوتنا) من الشعب التركي وحلفائهم لإظهاره إزاء عملية (نبع السلام)، منصبّاً على أي وقت من الأوقات التي كانت فيه حمص أو حلب أو إدلب أو الغوطة الدمشقية فيها تحت نيران نظام الأسد والاحتلالين الروسي والإيراني! كنا نتمنى أن نرى مظاهرات حاشدة وهاشتاغات تتصدر منصات التواصل الاجتماعي، كنا نتمنى أن نرى مهرجانات خطابية وحملات إعلامية وأرتالاً عسكرية وجيوشاً جرارة، إزاء العدوان الوحشي السافر الذي كنا نعاني منه طوال تسع سنوات، وفي مدن حيوية رئيسية أكثر أهمية من مناطق شرقي الفرات بكثير، وضد عدد أكثر كثافة من المدنيين في تلك المناطق، كنا نتمنى ذلك، ونبتلع شعور القهر والخذلان بينما العالم بأسره يتفرج على مأساتنا الدموية الشنيعة بلا حسّ ولا نفَس!
كنا نرجو من (فصائلنا الثورية) العتيدة أن تتوحد فعلاً تحت كيان واحد منظم، ولكن قبل هذا اليوم بكثير جداً! كننا نتمنى ان نراها تفعل هذا الأمر من تلقاء نفسها، وبتنظيم داخلي من ضباطنا الشرفاء المنحازين لثورة الشعب السوري، وبانضباط ذاتي من كل مقاتل وكل ثائر يشعر بثقل الأمانة الملقاة على عاتقه بعيداً عن أي إغراء أو أوامر خارجية، كنا نتمنى أن نراها موحدة عندما كانت حمص تستصرخ، وحلب تستنجد، والغوطة تنادي، وإدلب تتألم!
هكذا كانت أمانينا، وهكذا نصطدم اليوم بواقع لا نعارضه، ولا نقف ضده، إنما كنا نرجو – وبكل ألم – لو أتى هذا الواقع من العام الثاني أو الثالث لثورتنا، لا الآن، بعد تسع سنوات حصل فيها ما حصل، وتقاسم فيها الكعكة السورية كل قاصٍ ودانٍ، وبات الأمر مرهوناً للمصالح والأمر الواقع، بينما كان يمكننا تفادي عشرات المآسي بدعم بسيط من حلفائنا في بدايات الثورة، وما كانت تنظيمات كـ (داعش) و(قسد) وغيرها لتظهر أصلاً.
على صعيد آخر، وبناءً على بوصلتنا الثورية الوطنية أيضاً، لا نشعر بالمرارة والألم فحسب، بل نشعر بالخزي والعار والغضب أيضاً ونحن نرى موقف (الجامعة العربية) وبعض الدول العربية (الشقيقة) من العملية التركية، والتي يزعمون فيها بأن القوات التركية هي قوات احتلال، وأن العمل العسكري التركي في سوريا هو (عدوان)، ويسفكون دموع التماسيح على أمن وأمان سوريا وشعبها، بينما – ويا للعجب – لم نسمع لهم صوتاً عندما دخلت القوات الروسية إلى سوريا منذ أربع سنوات بكل ثقلها العسكري وبكل عجرفتها ووحشيتها لتساند نظام الأسد الإرهابي الفاشي وتثبت أركان حكمه، لتقتل بالاشتراك معه مئات الآلاف من السوريين، وتفرض عليهم واقع حصار المدن والتهجير والتغيير الديمغرافي.
ترى أين كان ذلك الصوت المدوي للجامعة العربية، وأين كانت اجتماعاتها الطارئة الخطيرة، وأين كانت إداناتها وغيرتها على سوريا وخوفها على السوريين، عندما كانت روسيا تلقي بلهيب طائراتها على إدلب وحلب والغوطة، وتقتل المدنيين العزل بالجملة، وتحاصر المدن السورية وتجوع أهلها ثم تهجّرهم؟ لو جاز لنا أن نعتبر التدخل التركي احتلالاً، ألا يعتبر التدخل الروسي احتلالاً من باب أولى؟ احتلالاً مقيتاً بغيضاً قتل وشرد ودمر وأجهز على حلم سوريا بالحرية والاستقلال والنهضة؟ فأين كان صوت الجامعة العربية وقتذاك؟ وأين كانت غيرتها وحميتها على سيادة سوريا واستقلالها وأمنها؟
ووفقاً لبوصلتنا الثورية أيضاً، ينطبق الأمر ذاته على دول الاتحاد الأوروبي التي أقامت القيامة بسبب العملية العسكرية التركية في سوريا، وبدأت بالعزف على ذات نغمة أمن سوريا واستقرارها وسلامتها، وكأن سوريا كانت تنعم بالأمن والأمان والراحة والسؤدد قبل دخول الجيش التركي إليها، وكأن السماء كانت مشرقة والزهور متفتحة والعصافير تزقزق قبل ان يعكرها تحليق الطائرات التركية! ألا يخجل (العالم المتحضر) من الحديث عن أمن سوريا واستقرارها الآن بالذات، بينما لم توقظ إنسانيتهم تسع سنوات من المحرقة الأسدية الروسية الإيرانية بحق الشعب السوري؟
أيها العالم ... بكل حكوماتك وشعوبك ومنصاتك الإعلامية، وفروا إنسانيتكم وحملاتكم وتضامنكم وخططكم الحربية اليوم لأجل ثلاثة ملايين انسان ينتظرون مصيرهم المجهول في بقعة جغرافية صغيرة اسمها (إدلب)! ثلاثة ملايين انسان جالسين تحت رحمة إرهاب (حقيقي) ووحشية لا ترحم من قبل نظام الأسد وميليشياته الطائفية الحاقدة، ويتربص بهم احتلال (حقيقي) يتمثل بالاحتلال الروسي الوقح المتغطرس! فقد آن لكم جميعاً – لو كان فيكم شيء من الإنسانية – أن تبصروا العدو الحقيقي لسوريا والسوريين، وأن تعملوا على تخليصنا منه إلى الأبد.
أيها السوري ... لا تحتكم في أي من خضم الأحداث العاصفة من حولك إلا لبوصلتك الثورية الوطنية النقية! لا تصغي إلا لصوتها المخلص، البعيد كل البعد عن أي مصلحة مادية أو معنوية، الصوت النقي النظيف الخالي من شوائب الأدلجة والانحياز والانبهار والسير مع حمى القطيع وعبادة الأصنام والانجرار وراء مخدرات الأوهام والإعلام! بوصلتك الثورية هي الفيصل، وصدقني ... لو أصغيت إليها بقلبك فعلاً فستعرف أين الدرب.
أما أن تستمر مهزلة الكيل بمكيالين لدى الجميع ... حكومات وشعوباً وأفراداً، وأن نمضي مع ازدواجية المعايير لدى هذا العالم مع كل مراحل ثورتنا اليتيمة الوحيدة الشجاعة، تلك الازدواجية الموجودة لدى الجميع، لدى القريب والبعيد، لدى الصديق والعدو، لدى الشعوب والحكومات، فتلك لعمري مأساة حقيقية، ووصمة عار في جبينكم جميعاً، بعيداً عن كل الشعارات البراقة والحملات الإعلامية والإنسانية الشوهاء الكاذبة.
Kommentare