top of page
بحث

عذراً غزة

صورة الكاتب: محمد حسن أطرشمحمد حسن أطرش

تاريخ التحديث: ٢٦ يوليو ٢٠٢٣

عذراً غزة

عاتبتني غزة أمس!

أخبرتني حزينة: ألا يكفيني ما بي من مصاب؟ حتى أراك تجفوني أنت ورفاقك هذه الجفوة؟ ماذا دهاك؟ وأنت الذي كنت تملأ الأرض ضجيجاً وثورة لأجلي ... ويخفق فؤادك لذكر اسمي ومرأى بطولات أبنائي! مالي أراك قد صَمَتَّ اليوم وأشحت بقلمك وفكرك وحبك عني؟

حاولت ألا أجيب ... تهربت منها ما استطعت، إلا أنها كانت لحوحة كالقدر! مصرّة كقذيفة مدفع! حزينة حزناً أيقظ في قلبي ما تبقى من قديم الحب، ونزق النضال، وحميّة القضية.

اسمعي يا غزة ...

سؤالك هذا – مجرد سؤالك – هو أكبر مدعاة لعتبي عليك! لأنه إن دل على شيء فإنه يدل على أنك لا تدرين حقاً ما يجري حولك في هذا العالم ... لا زلت حتى الآن تظنين أن ألمك هو أقصى الألم، وأن جرحك هو الأكثر نزفاً وحرارة، وأن أبناءك وبناتك هم الأكثر بطولة وشجاعة ... وأن فاجعتهم هي الأدهى والأقسى والأمضى بين كل ما عرفناه عبر التاريخ القريب من ألم.

لا أخالفك في ذلك .... وقد كنتُ هكذا مثلك في يوم من الأيام ... وقد كنتِ حقاً كذلك في يوم من الأيام ... إلى أن حل محلك جرح أقسى، وألم أشد، وفجائعية لم نعرف لها من قبل مثيلاً في الهول والدم والدمار. ذاك الألم ... انساني كل ألم آخر ما عداه، وفداحة هذا الألم ... انستني قدسية ألمك يا غزة!

لا تلوميني ارجوك ... يكفيني أن شرفاء العالم كله يتضامنون معك – ولو معنوياً – في كل أرجاء الأرض كلما حمي وطيس الاجرام عليك ... أما نحن ... وطننا ... وأرضنا ... وألمنا ... فلا بواكي له ولا آبِه لهول مصابه! يكفيك يا غزة أنك لا زلت قبلة المناضلين، وبوصلة الثائرين، وصرخة الحرية المقدسة لدى الأمة جمعاء ... أما نحن ... فبالرغم من كل ألمنا وجراحنا ونزيفنا الذي فاق نزيفك بآلاف الأضعاف ... بالرغم من البطولة الأسطورية لأبناء وطننا في التصدي للعدوان وانتزاع الحرية من فك أشد طغاة العالم بطشاً وجبروتاً وسفالة ... بالرغم من كل ذلك ... لا يتضامن معنا أحد من أبناء الأمة إلا من رحم ربي ... ولا يشعر بنزيفنا أحد!

اتضح لنا يا غزة بأن عدوك عدو رحيم ... عدو ملائكي ... عدو - وأقولها آسفاً - شريف، مقارنة بحشد أعدائنا الذين لا ميثاق لهم ولا شرف ولا مبادئ ولا إنسانية! اتضح لنا يا غزة أنه مقابل كل شهيد يسقط فيك ويثور العالم كله لأجله ... يسقط عندنا بالمقابل آلاف الشهداء في نفس اللحظة ... دون أن تبكيهم عين أو يطرف لهم رمش.

وهكذا نأت عنك روحي يا غزة! نأت بعد ان عايشت بنفسي هول الفجيعة في بلادي ... نأت بعد ان عرفت ان عدونا الحقيقي كان يعيش بين ظهرانينا ويحكمنا زوراً وبهتاناً باسم قضيتك المقدسة! نأت بعد أن رأيت نفاق وسفالة المتاجرين بقضيتك، المتباكين على ألمك ... بينما يغضون الطرف عن ألمنا الذي يفوق ألمك بمراحل ولا يأبهون له! نأت وانا أرى أبناء أمتنا ممن أضاعوا البوصلة وغابوا عن الوعي يقدسون حروف اسمك، ويعبدون الثرى الذي يمشي عليه أبطالك، بينما يصفون ثوار بلدي بالإرهابيين، ويباركون قتل ألوف الأطفال في بلادي، ويلتمسون الأعذار للمجرمين الذين يرتكبون فظائع لم يعرف لها التاريخ مثيلاً ضد أرضي وشعبي.

سامحيني يا غزة ... ليس ذنبي أنني جفوتك، بل هو ذنب هذا العالم الساقط السافل المنافق، بموازينه المكسورة، ونفاقه الرخيص، ووعي شعوبه الغائب التائه.

عذراً منك يا غزة ... لم يعد لك في قلبي مكان.

٣٢ مشاهدة٠ تعليق

أحدث منشورات

عرض الكل

Comments


bottom of page