top of page
بحث

شرارة الانطلاق ... بين (المكالمة) و(الرسالة)

صورة الكاتب: محمد حسن أطرشمحمد حسن أطرش

تاريخ التحديث: ٢٦ يوليو ٢٠٢٣


شرارة الانطلاق

شرارة الانطلاق ... بين (المكالمة) و(الرسالة)!


سؤال خطر على بالي قبل قليل، وهو برسم جماعة (سيكون الرد ما ترى، لا ما تسمع) الذين لا يجيدون سوى التطبيل والتزمير وعبادة أصنام الوهم واختلاق البطولات والأمجاد من لا شيء ...

الجميع ادّعى يوم أمس بعد تسريب رسالة ترامب الشوارعية السخيفة إلى أردوغان بأن هذا الأخير قد ألقاها في سلة المهملات، ولم يرد أبداً، بل بادر إلى الرد في الميدان من خلال إطلاق العملية العسكرية العتيدة إياها، ما أجبر الأمريكي على القدوم (صاغراً) إلى طاولة المفاوضات، ليحقق رغبة الذات السلطانية العلية! طيب ... كل هذا جميل جداً، ويصلح لقصص البطولات والفرسان والأساطير التي أتخمت بها كتب تاريخنا الحقيقي والمزيف على حد سواء، ولكن الجميع نسي أمراً هاماً جداً في زحمة كل هذا التطبيل والتزمير والنفاق!

لو عدنا بذاكرتنا تسعة أيام فقط إلى الوراء، لتذكرنا بأن أردوغان قد اتصل هاتفياً بترامب قبيل إطلاق العملية بساعات قليلة، وأجمع الجميع وقتذاك بأن أردوغان قد نال الضوء الأخضر – أو على الأقل الضوء البرتقالي – من قبل ترامب خلال تلك المكالمة ليقوم بإطلاق عمليته العسكرية، وقالت وقتها كل الجهات والتسريبات والتقارير بأن المكالمة كانت ودية جداً بين الرجلين، وأن ترامب قد تفهم مخاوف تركيا وأهدافها، بل وحتى قد أمر بسحب قواته من سوريا على إثر ذلك.

برأيكم ... هل من المعقول أن يتحدث رئيسان على الهاتف ضمن مكالمة كتلك، وأن ينال أردوغان الضوء الأخضر من ترامب لبدء عمليته، لو كان هذا الأخير قد أرسل رسالة منحطة كتلك، قبل ساعات فقط إلى أردوغان؟ لا وهل من المعقول أن يرفع أردوغان سماعة الهاتف ويتحدث مع من أهانه وأثار غضبه، بل وأن يتوصل كلاهما إلى نتيجة إيجابية رغم مضاعفات تلك الرسالة المزعومة؟ ألا تشعرون بشيء خاطئ في كل تلك الروايات والأساطير والتمثيليات؟

دعونا نتناول الموضوع بأكمله بشيء من التحليل المنطقي ...

الثابت في الموضوع، هو المكالمة التي جرت يوم الثامن من تشرين الأول أكتوبر – أي قبل إطلاق العملية العسكرية التركية بيوم واحد – بين كل من أردوغان وترامب، والتي أجمع الكل على أنها كانت إشارة البدء لانطلاق العملية العسكرية في مناطق شمال شرق سوريا، وقد انفردت مجلة (نيوزويك) الأمريكية بنشر تسريب لتلك المكالمة، وذلك نقلاً عن مصدر في مجلس الأمن القومي الأمريكي، ونقلت المجلة عن هذا المصدر المطّلع على المحادثة قوله: إن موقف ترامب خلال الاتصال مع أردوغان كان ضعيفاً، وأن ترامب لم ينل خلال الاتصال مع نظيره التركي شيئاً مقابل موافقته على العملية العسكرية التركية في سوريا! فما رأيكم؟ هل موقف كل من ترامب وأردوغان إبان هذه المكالمة، هو موقف رجل أرسل رسالة بذيئة لرجل آخر استشاط غضباً بسببها؟

طيب ... لو كانت تلك الرسالة قد أرسلت قبل المكالمة، لكان من المستحيل أن تتم تلك المكالمة أصلاً! ولو كانت قد أرسلت بعد المكالمة – وهو الرأي الأكثر قبولاً بالرغم من عدم منطقيته كذلك – فالثابت أن العملية العسكرية التركية كانت ستنطلق بكل الأحوال، سواء أوصلت تلك الرسالة لأردوغان أم لم تصل، لأن العملية انطلقت بفعل مخرجات المكالمة، لا بفعل ردة فعل غاضبة من قبل أردوغان بعد قراءته لتلك الرسالة، وهذا ما يدحض مزاعم جماعة التطبيل والتزمير واختلاق قصص البطولة وأساطير الفرسان!

الاحتمال الثالث، هو أن تكون تلك الرسالة مزيفة وملفقة من الأساس! وهو احتمال ذو نقاط ضعيفة قد تغليه، وذو نقاط قوية قد تدعمه، فما يدفعنا للتمسك بهذا الاحتمال هو محتوى الرسالة وطريقة كتابتها بحد ذاتها، ببعدها كل البعد عن أي لهجة دبلوماسية معروفة، وبأسلوبها الفج الشوارعي الذي لا يعقل أن يلجأ إليه رئيس مهما كان أرعناً مخبولاً، فما بالكم برئيس دولة كالولايات المتحدة الأمريكية؟ مهما كان ترامب أهوجاً ومتهوراً، لا يمكن أن تمر رسالة كتلك من بين كل حشود وزراءه ومستشاريه وموظفيه مرور الكرام، دون أن يلفت أحدهم نظره إلى فجاجة تلك الرسالة ووقاحتها، هذا لو افترضنا أساساً بأن ترامب يكتب رسائله بنفسه.

أما ما يقوي احتمالية أن تكون تلك الرسالة حقيقية، فهو الصدى الكبير الذي نالته عبر منصات التواصل الاجتماعي ووسائل الإعلام، بل وحتى من قبل ردود أفعال بعض الساسة والإعلاميين المعروفين، ولو كانت الرسالة مختلقة او مفبركة لما حظيت بكل هذا التعليق والانتشار! فهل تلك الرسالة حقيقية فعلاً بالرغم من كل وقاحتها وانحطاطها؟ الجواب غالباً هو (نعم).

وفوق كل ذلك، يبرز لدينا أيضاً تساؤل مهم في سياق قريب لكل ما جرى، سؤال عن ذلك السر العجيب الذي يدفع ترامب للموافقة على العملية العسكرية في مكالمته مع أردوغان، ثم ينقلب عليها بعد ساعات أو حتى أيام من خلال رسالته المزعومة تلك، او حتى من خلال تغريداته المعروفة المثيرة للجدل! والجواب هنا بسيط وواضح ولو ظاهرياً، ألا وهو التناقض المستمر دائماً بين قرارات وتصرفات ترامب، وبين الممانعة الدائمة ضده من قبل الكونغرس ذي الأغلبية الديمقراطية المناوئة لترامب الجمهوري، حيث نعلم جميعاً بأن الكونغرس قد هاج وماج بسبب العملية التركية وسحب القوات الأمريكية من شمال سوريا، الأمر الذي دفع ترامب فيما بعد لمحاولة تعديل الكفة وامتصاص صدمة معارضيه.

إذاً، فتوقيت إرسال تلك الرسالة هو نقطة الخلاف، فتلك الرسالة لم ترسل حتماً قبيل المكالمة بين أردوغان وترامب، ولم تكن – قطعاً وحتماً – سبباً في إثارة غضب أردوغان وإعلانه إرسال الجيوش وفتح النار وحرق الأخضر واليابس على الأعداء! وغالب الظن أن تلك الرسالة قد تم إرسالها بعد انطلاق العملية التركية بساعات، بل بأيام. ولو كان لي رأي شخصي بكل تلك الزوبعة ... فأنا أرجح بأن تلك الرسالة ملفقة ومفبركة وغير حقيقية على الإطلاق.

أما لجماعة التطبيل والتزمير وعبيد الوهم وصنّاع الخرافات وقصص (السوشال ميديا)، رسالتي الوحيدة – التي أعلم تمام العلم بأنهم لن يسمعوها في زحمة حشيشهم الفكري ومراهقتهم اللانهائية – فهي أن العالم لم يعد يدار بعقلية ردات الفعل الانفعالية الآنية، ولم نعد في زمن (سيكون الرد ما ترى، لا ما تسمع) و (وامعتصماه) و (البحر من أمامكم والعدو من ورائكم) وكل هذا الإرث الغابر من قصص البطولة والفروسية المنقرضة! العالم بات يدار بالسياسة ... وليست أية سياسة فحسب، بل بالسياسة الحذرة الجبانة الخائفة الشديدة التلون والتحايل، مع قدر ضخم من الكذب والخبث والأنانية المفرطة! لا مكان لقصص الشجاعة والجرأة والعظمة في كل ما نراه ونسمعه اليوم وبشكل خاص – وخاص جداً – على الساحة السورية التي باتت معتركاً لأحط المصالح البشرية وأكثرها دناءة وجشعاً وبراغماتية.

قبول هذه الحقيقة هو النضج والوعي والحكمة، ورفضها والانسياق وراء البطولات الكاذبة والمواقف الفارغة والشعارات الطنانة الرنانة هو العته والسفاهة والمراهقة الأبدية! علينا أن نصحو ، وننضج ، ونكبر ... ونترفع عن كل تلك السفاسف الفكرية التي لا تسمن ولا تغني من جوع ... علينا حقاً أن نشفى من عقدة النقص التي جعلتنا نمجد ونعبد كل رائح وغاد، ونجري لاهثين وراء سراب لا ناقة لنا فيه ولا جمل ... ولو فعلنا هذا حقاً وشفينا وكبرنا ونضجنا ... عندها فقط، يمكن أن نبدأ باشتمام رائحة النصر والنهضة والحرية.

٣٥ مشاهدة٠ تعليق

أحدث منشورات

عرض الكل

コメント


bottom of page