top of page
بحث

قمة الـقـاع !

صورة الكاتب: محمد حسن أطرشمحمد حسن أطرش

تاريخ التحديث: ٢٦ يوليو ٢٠٢٣

قمة

انتهت يوم أمس مجريات ما سمي اصطلاحاً بـ (القمة الإسلامية المصغرة) أو كما سمي رسمياً بـ (قمة كوالالمبور) بالعاصمة الماليزية، ليتم التركيز بشكل رئيسي على ثلاث قضايا رئيسية هي : قضية فلسطين – كما هي العادة – وحصار إيران وقطر، ومسلمي الإيغور بشكل أو بآخر، بينما غابت قضية الشعب السوري عن أجندة الحاضرين، وكأن هذا الشعب الذي يعاني في سوريا تحت قنابل روسيا وحلفائها ليس (مسلماً) ولا يمت بوشيجة صلة للأمة (الإسلامية) التي لم تعد ترى من (معاناة) و(فجائعيّة) إلا في القالب الجاهز دائماً للمتاجرة به، ألا وهو القضية الفلسطينية، أو في قضية لازمة للتملق والمداهنة كقضية (حصار) إيران التي لا أدري أصلاً من احتسبها على الإسلام والمسلمين، أو في قضية طارئة جاهزة – وتصلح لاستجرار العواطف وبيع الشعارات أيضاً - يمليها عليهم عضو (مهم) آخر في هذا الحلف (الإسلامي) لكي يبيض صفحته وينصّب نفسه زعيماً للعالم الإسلامي، ألا وهي قضية الإيغور وتركستان الشرقية.

لن أدخل كثيراً في سياقات تلك القمة العبثية – بكل ما تحمله الكلمة من معانٍ ودلالات - إنما ما يعنيني اليوم كسوري يرى أطفال بلاده يموتون الآن وفي لحظة كتابة هذه السطور تحت حمم الموت الروسية الأسدية أمام صمت مطبق من العالم، كل ما يعنيني هو محاولة – مجرد محاولة – فهم وتفسير المنطق الذي يسير فيه هذا العالم بشرقه وغربه، بعربه وعجمه، بمسلميه ومن هم غير المسلمين منه، وبكل الطاقة الهائلة الجبارة للنفاق وقلب الموازين وتغييب الوعي التي بتنا نحيا في خضمها ونتخبط في ظلامها، والأدهى أن الكثيرين منا سعيدون بهذا، أو لا مبالون أساساً.

قدرة هذا العالم اليوم على جعل أي قضية يريدها ... هامة، أو غير هامة ... هو مقدار المصالح المادية أو المعنوية المرتبطة بها لا أكثر ولا أقل! وهذه حقيقة وعيها الكثيرون ممن أرادوا الوعي وسعوا إليه، لذلك فلا جديد فيها ولا مفاجأة، المدهش – والمثير للاشمئزاز في آن معاً – هو طريقة هذا العالم في التعاطي مع قضية تافهة يجعل منها أولوية عظمى، مقابل قضية عظيمة وخطيرة يجعل منها صغيرة وتافهة، بل لا يتناولها ولا يذكرها من الأصل!

وللأسف، فالعالم (الإسلامي) – أو الذي يدّعي بأنه كذلك – ليس باستثناء في هذا الصدد، فلم يستطع هذا العالم أن يتمايز عن النفاق الغربي الذي يتخذ من (الإنسانية) و(الحرية) و(حقوق الإنسان) ديناً ومذهباً وشعاراً، ليخالف هذا الدين في كل أفعاله ومصالحه وجشعه ومكياله المكسور ... بل يبدو بأن (العالم الإسلامي) قد سبق العالم الغربي بأشواط طويلة في مضمار النفاق والشعارات الفارغة والتجارة بعواطف الشعوب والتلاعب بها، وكلامي هذا ليس مبالغة ولا تجنياً، و(قمتهم الإسلامية) الأخيرة في العاصمة الماليزية هي خير دليل ... فقط لمن كان له قلب، أو ألقى السمع وهو شهيد! فقط لمن حرر نفسه من نير أوهام الشعارات الفارغة، والمزاعم الخلابة الخادعة، وعبادة الأصنام التي نصّبت نفسها في مقام الخلافة والإمارة والبطولة، وماهي من ذلك بشيء.

فالعالم الإسلامي المزعوم الذي لا زال يرى في قضية فلسطين قمة المعاناة الإنسانية، وخلاصة النضال والجهاد، وأولوية السعي والتخلي والمفاضلة ... هذا العالم ليس بإسلامي ولا يفقه من إسلامه شيئاً! فلغة الأرقام وأرشيف عملاق من الصور والحكايات والآلام الواقعة، كلها تشي بالفاجعة الأكبر والأكثر إيلاماً في زماننا هذا على الأقل ... فاجعة مقتل قرابة مليون شخص، وتهجير عشرة ملايين آخرين، وهدم بلد كامل كان يعدّ في فترة ما من أرقى وأجمل بلدان المنطقة ... وفوق هذا كله، فرار المجرم الذي فعل هذا بجرائمه، وعدم محاسبته من أي جهة في العالم، بل دعمه الحثيث سياسياً واقتصادياً وعسكرياً من دولتيّ (الفيتو) الروسية والصينية ... هذا كله، هذا البلد وهذا الشعب الذي عانى كل هذا الجحيم، مسلم ... وينتمي لهذا العالم (الإسلامي) الذي اجتمع (قادة) هذا العالم لتباحث قضاياه، وما عاناه هذا الشعب وهذا البلد، بكل ألمه وفجائعيته ووقعه، يفوق كل ما مرت به فلسطين منذ بدأت مأساتها إلى يومنا هذا!

قضية مسلمي الإيغور – ومع كل غيرتنا عليهم وألمنا لمصابهم ونصرتنا لقضيتهم – ليست بالقضية الجديدة، وهي تكرار حرفيّ لذات مأساة مسلمي الشيشان والبوسنة وميانمار وبعض دول وسط أفريقيا، فلماذا تسليط الضوء عليها الآن بالذات؟ ولماذا يحشد من يظن نفسه (قائداً) للعالم الإسلامي كل آلته الإعلامية والشعبية لأجلهم الآن بالذات؟ علماً بأن الدول الغربية قد طالبت بحقوق مسلمي الإيغور قبل أن يطالب بها هذا (القائد)، ودعمتها وعاقبت الحكومة الصينية لأجلها قبل أن يقرر (قائدنا) أن يستثمر هذه القضية لأجل أجنداته وأوهامه وجنون عظمته، كما فعل ولا يزال مع قضية فلسطين التي يعتبر من أقوى تجارها وأكثرهم لعباً بأوهام عبيد هذه القضية ومخدوعيها ... وبرأيي – ورأي الكثيرين من أمثالي – فلم تصل معاناة إخوتنا في تركستان الشرقية إلى ما وصلت إليه معاناة الشعب السوري الجريح المقتول ... قهراً وكمداً وخذلاناً.

أما عن مشاركة إيران في تلك القمة، بل وجعل قضية (حصارها) فاجعة أخرى من فجائعيات هذا العالم الإسلامي المفصلة على مقاسهم ومقاس مصالحهم وتجاراتهم بعواطف الشعوب، فهنا الطامة الكبرى، والقشة التي قصمت بعير نفاق أولئك (القادة) الذين نصبوا أنفسهم حرساً للعالم الإسلامي ومصالحه، وجعلوا من أنفسهم رموزاً وقدوات وأصناماً! هذا الفكر، وتلك السياسة الجوفاء المائعة الفارغة التي تجعل من إيران – بنظامها الحاكم الحالي والأيديولوجيا القومية والمذهبية التي تحكمها – جزءاً من (عالمها الإسلامي)، لا وبل قضية من قضاياه، هذا الفكر، وتلك السياسة، لا علاقة لها بالإسلام ولا المسلمين ولا العالم الإسلامي لا من قريب ولا من بعيد.

وهذا الكلام ليس من منطلق تعصب طائفي أو قومي تجاه إيران وقيادتها الحالية، تلك القيادة الدينية الثيوقراطية التي لم تخف عداوتها الصارخة لكل ما هو إسلامي (حقيقي)، ولم تتوان للحظة في إخفاء طموحاتها باستعادة الأمجاد الفارسية الحاقدة على الدولة العربية الإسلامية التي نجحت قبل 1400 في إقصاءها عن عرش سيادة العالم والمنطقة ... ليأتي الآن (قادة) العالم الإسلامي الجديد، ويفتحوا أيديهم لتلك الدولة التي لم تعتبر نفسها يوماً منتمية لذات الدين الذي ننتمي إليه، ولم تتخل للحظة عن حقدها على العرب والعروبة والإسلام العربي، بل نجحت – وأيما نجاح – باستخدام (التقية) التي تعيش وتتنفس بها وسط هذا (العالم الإسلامي) الذي تتماهى معه، وتضحك بها على (القادة) الجهابذة لهذا العالم ... أولئك القادة الذين ضلّ سعيهم، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا.

نسي أولئك (القادة) في سعار اوهامهم وشعاراتهم وتجارتهم (الرابحة) بأن ذلك الكيان المتخم بالأحقاد والمتعايش بالتقية قد تسبب بمقتل الملايين من المسلمين في العالم الإسلامي الحقيقي، منهم مئات الآلاف في سوريا لوحدها، تلك الدولة التي لا تخفي إيران دعمها الواضح والصارخ لسفاحها ومجرمها المنبوذ عربياً وإسلامياً وعالمياً. نسي أولئك (القادة) في حمّى تجارتهم بباقي القضايا (الرابحة) حقيقة هذه الدولة المارقة الحاقدة الدموية التي تكره كل واحد فيهم، واستجابوا – بوعي او بدون وعي – لحلاوة سمّ تقيتها الزعاف، بينما أصموا الآذان عن صراخ أطفال سوريا الذين يموتون بأسلحة حليفتهم العزيزة إيران، وحليفها الأعزّ معتوه القرداحة.

مرت (القمة) المزعومة دون أي إدانة لجزار سوريا وحلفاءه ... لماذا ؟ لأن ثلاثة أرباع من يجلسون في تلك القمة هم أصلاً من حلفاءه! بينما يتعامى الربع المتبقي عن جرائم هذا الطاغية السفاح ويغض الطرف عما يفعله، بعد أن أدى وظيفته في القضية السورية وأتمّ ما عليه من مهام في تأجيج الصراع ورمي الناس العزل في أتون آلة الحرب الأسدية الروسية الإيرانية ! مرت قمة كوالالمبور بسلاسة وقبلات حارة بين (القادة)، في نفس اللحظة التي تصب فيها طائرات حليفهم وصديقهم الروسي حممها على أطفال إدلب السورية لتمزق من تمزق منهم، وتترك الآخرين في رعب وخوف، أو شريدين تحت رحمة الصقيع والأمطار والسيول.

مرت قمتهم ... قمة استعراض النفاق بأوضح صوره، وتكريس الخذلان بأقسى تجاهلاته، وشرح البرهان القاطع والأكيد بأنهم لا يفضلون شيئاً عن العالم الغربي الذي يزعمون مناظرته ومقارعته، هذا إن لم يكونوا أسوأ منه أساساً! مرت تلك القمة التي لم تكن إلا قمة بالاتجاه المعاكس، أو بالأحرى، كان يجب أن تحمل اسم (القاع الإسلامي) بدلاً من اسم (القمة الإسلامية)، أو بموائمة بين النقيضين ... كان يجب أن تحمل الاسم الصريح المباشر المعبر عنها بكل صراحة وجلاء ... اسم (قمة القاع)!

٧٦ مشاهدة٠ تعليق

أحدث منشورات

عرض الكل

Comentários


bottom of page