top of page
بحث

سوريا وليبيا ... إلى أي مدى يتشابه الوضع الاقتصادي؟

صورة الكاتب: محمد حسن أطرشمحمد حسن أطرش

سوريا وليبيا

سوريا وليبيا ... بلدان مزقتهما حرب بدأت بانتفاضة شعبية ضد أنظمة شمولية استبدادية، وسرعان ما تحولت إلى حرب أهلية شاملة، وساحة واسعة لتدخل كل القوى الأجنبية ذات المصلحة، وبيئة أفرزت تنظيمات متطرفة سببت ضرراً للعالم أجمع. بلدان يحتويان على ثروات اقتصادية هائلة لطالما غيبت عمداً عن الشعب ذاته قبل أي طرف خارجي آخر، وسببت الصراعات المشتعلة في كل منها إلى تغيرات هائلة لا في هيكليتهما الاقتصادية فحسب، بل في سباقات التوازنات الاقتصادية في العالم بأسره.

لقد كان للنزاع آثار مدمرة على كل من سكان ليبيا وسوريا، ولكنه أتاح أيضاً فرصاً للجهات الفاعلة الجديدة لتغيير خارطة الاقتصاد كلياً في البلدين. ففي ليبيا أدى سقوط نظام القذافي وانتشار الجماعات المسلحة وتآكل قدرة الدولة إلى خلق بيئة مواتية لمجموعة جديدة من أصحاب المشاريع ورجال الأعمال والجهات الفاعلة المسلحة. وفي سوريا، أدى انهيار سلطة الدولة والصراع الميداني المستمر إلى خلق جماعات مسلحة جديدة، ترافقت مع ظهور مجموعة واسعة من النخب الاقتصادية الجديدة، بعضها انسجم مع النظام ونسق معه بل وقدم له خدمات عديدة، وبعضها كان ينسق مع مجموعة واسعة من جماعات المعارضة إن لم يكن جزءاً منها أساساً. وقد حقق آخرون عائدات كبيرة من خلال قدرتهم على التعامل عبر الخطوط الأمامية بانتماءاتها المختلفة، وقد أدى ارتفاع وبروز هذه الجهات الفاعلة إلى ترسيخ الحوافز السلبية لاستمرار الصراع، وتعطيل جهود الوساطة لإيقاف جنون الحرب واستعارها.

وعلى الرغم من الاختلافات بين أساس الصراع وشكله ودوافعه في كل من ليبيا وسوريا، إلا أنه يمكننا تحديد هياكل الحوافز السلبية التي تولدها الأنشطة المعتمدة أصلاً على توزيع العنف ضمن السياقين. وسنتناول في هذه المقالة أربع طرائق رئيسية لاقتصاديات الحرب الليبية والسورية: استخراج الإيجارات والابتزاز؛ البيع المباشر للسلع؛ الوصول إلى عائدات الدولة أو افتراسها؛ ورعاية الجهات الفاعلة الخارجية. وسنحاول في كل حالة أن نوضح الكيفية التي تم فيها دعم العنف وتصعيده واستغلال ضعف الدولة لهذا الغرض، فتحركات اقتصاد الحرب تعتمد إلى حد كبير على ضعف الدولة. ومع ذلك فإن التصورات حول إعادة تأكيد سلطة الدولة لها دلالات مختلفة في الدول المعنية بحسب الحالة التي تعيشها الدولة والغايات التي قامت الحروب فيها أساساً. فبالنسبة لسوريا، فإن إعادة تأكيد سلطة الدولة مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بإعادة توطيد سلطة نظام الأسد، في حين تأمل ليبيا في أن تظل التسوية مؤدية لنام حكم تشاركي يضم كل الأطراف المتنازعة حالياً. وفي كلتا الحالتين، من المحتمل أن تظل الاتجاهات الملحوظة في اقتصادات الحرب موجودة في أي مرحلة بعد التسوية المنتظرة، فالسيطرة على الأراضي والبنية التحتية الاقتصادية أداة قوية لتوليد الإيرادات في ليبيا وسوريا. وفي غياب سلطة الدولة، ظهرت أسواق قوية تحميها وتديرها الجماعات المسلحة على اختلاف توجهاتها. ففي سوريا على سبيل المثال كانت هناك نقطة تفتيش بين الثوار المحاصرين في الغوطة الشرقية والأراضي الخاضعة لسيطرة النظام تدعى (حاجز المليون) بسبب مقدار الربح الهائل الذي يمكن أن يتولد عن الضرائب غير الرسمية على البضائع العابرة إلى الغوطة المحاصرة، وهذا ما جعل تكلفة السكر مثلاً داخل الغوطة مساوية لأربع أضعاف سعره في دمشق الخاضعة لسيطرة النظام. وفي ليبيا استخدم الحصار النفطي الذي تقوم به القوات المسلحة كأداة قوية لابتزاز الدولة، وتفيد التقارير أن الحصار في الهلال النفطي الذي بدأ عام 2013 بقيادة (إبراهيم جادران) قد كلف خزائن الدولة أكثر من 100 مليار دولار.

كما أن المبيعات المباشرة للسلع تولد عائدات كبيرة، فقد حقق تنظيم الدولة أرباحاً هائلة جرّاء سيطرته على حقول النفط، وتشير الدراسات إلى أن التنظيم قد قام بالحصول على 2-3 ملايين دولار يومياً من تهريب النفط. أما في ليبيا فقد أدى غياب سلطة الدولة إلى منافسة مفتوحة داخل قطاع التهريب، ونتيجة للانتشار السريع للأسلحة بات المهربون يعتمدون بشكل متزايد على الجماعات المسلحة، وبدورها أصبحت هذه الجماعات المسلحة أكثر مشاركة بشكل مباشر في أنشطة التهريب. وهكذا نجد أن وجود دولة قوية ذات قطاع أمني قوي يشكل تهديداً كبيراً لهذه الجهات الفاعلة، فقد أصبح تهريب الوقود مصدراً مرتفعا للدخل بالنسبة للمهربين الذين يستخدمون أوراقاً مزورة للحصول على البنزين المكرر بسعر مدعوم بدرجة كبيرة، إما لتهريبه خارج البلاد أو بيعه محلياً بسعر السوق السوداء - الذي هو أعلى بكثير من السعر الرسمي - وعلى الرغم من معرفتها بمدى فداحة تهريب الوقود، لم تتمكن الدولة من فعل الكثير من الناحية العملية لوقفها.

على صعيد آخر فقد تم توجيه اهتمام دولي كبير لتنامي تهريب البشر في ليبيا، ففي عام 2010 اعتمد حوالي 15000 مهاجر ولاجئ على الشواطئ الليبية للوصول إلى أوروبا، وبحلول عام 2016 ارتفع هذا العدد إلى أكثر من 162000 شخص، مما جعل تهريب البشر مصدراً مربحاً للدخل. الدولة الليبية تعتمد بشكل كبير على الدخل القادم من النفط والغاز، وعلى الرغم من تشتت وتمزق السياسة المحلية الداخلية، فإن هذه العائدات توزع على الصعيد الوطني، وبالتالي فإن أكبر فرصة لتحصيل المكاسب هي في المركز، وقد أتاح ضعف الحكومة المدعومة من قبل الأمم المتحدة في طرابلس بيئة خصبة لنهب إيرادات الدولة من قبل المسؤولين الفاسدين والجماعات المسلحة. وكان أحد المخططات الرئيسية المستخدمة هو الاستخدام الاحتيالي لخطابات الاعتماد لاستيراد السلع إلى البلد، والتي تم انتزاعها من خلال التخويف والابتزاز والمشاركة في الخيار، وفي كثير من الأحيان لا يتم فعلياً شراء أي سلع، كما أن الأموال المستمدة من خطابات الاعتماد تسرق ببساطة! وبالإضافة إلى ذلك فقد أدى غياب سيطرة الدولة على الاقتصاد وضعف القطاع المصرفي - الذي يقوضه تدخل الجماعات المسلحة - إلى تمكين سوق سوداء قوية بشكل متزايد، وهي الآن تشكل أساساً لمعظم النشاط الاقتصادي اليومي في ليبيا. الوضع في سوريا مختلف، فبينما يتمتع النظام بإمكانية الوصول إلى خزائن الدولة، فإنه يواجه نقصاً في الموارد. إن محاولات النظام للتحرك ضمن عقوبات الاتحاد الأوروبي المفروضة عليه أدت إلى تمكين مجموعة جديدة من رجال الأعمال الذين تتماشى مصالحهم مع النظام بشكل وثيق، وهؤلاء الأفراد لديهم حوافز قوية للعمل ضد عودة رجال الأعمال الذين غادروا سوريا في بداية الصراع لأنها سوف تهدد موقفهم الحالي واستغلالهم لخلو الساحة، وبالفعل كانت هناك حالات سعت فيها النخب الجديدة لردع عودة النخب الاقتصادية السابقة لما قبل الصراع. وعلى سبيل المثال، لدينا (قوات النمر) و(الصقور الصحراوية) - وهما تنظيمان يعملان لصالح للنظام - يمولهما الأفراد الأثرياء بدلاً من الدولة، مثلاً يتم تمويل قوات النمر من قبل (رامي مخلوف) ابن خال الأسد، وهي تحتوي على عدد كبير من المهربين السابقين والمجرمين الذين تم تجنيدهم للعمل لصالح النظام. وعلى الرغم من التعهد بالولاء للأسد، واصلت كل من قوات النمر وصقور الصحراء إدارة عمليات التهريب الخاصة بها وممارسة حكم ذاتي كبير.

ولا تزال الرعاية الخارجية بالطبع تؤدي دوراً مباشرا وكبيراً في إدامة الصراع في ليبيا وسوريا. وقد عرف مسار الصراع في سوريا بمستوى الدعم الأكبر الذي قدمه حلفاء الأسد بالمقارنة مع الدعم المقدم إلى خصومه. إن انخفاض الدعم العسكري للمعارضة المسلحة وانقطاعه نهائياً في نهاية المطاف في عام 2017 كان قائماً على الآفاق العسكرية الواضحة للأسف والمرسومة لصالح النظام، في حين ظل النظام يعتمد على الدعم العسكري والاقتصادي الإيراني والروسي للبقاء واقفاً على قدميه. وبالمثل حدد التدخل الأجنبي في ليبيا مسار ثورة 2011، وفي عام 2017 قدم فريق خبراء الأمم المتحدة بالتفصيل تقريراً عن مدى الدعم الإماراتي لتطوير القوات الجوية التابعة للجيش الوطني الليبي الذي يقوده اللواء المتقاعد (خليفة حفتر)، وقد مكن الدعم الدولي حفتر من تعزيز مكانته في شرق ليبيا ورفض المشاركة الفعالة في جهود الوساطة الدولية. وفي كل من ليبيا وسوريا، فإن وضع الجماعات المسلحة بالنسبة لما يتم رسمه ضمن السياسة الدولية هو العامل الحاسم وراء الدعم الذي تتلقاه من الجهات الفاعلة الخارجية.

وعلى الرغم من الاختلافات بين الصراع الليبي والسوري، فإن السياقات تشترك في العديد من القواسم المشتركة، فكل منهما يحتوي على أفراد وجماعات قوية يستفيدون جميعاً من الوضع الراهن. وقد سعت المحاولات في ليبيا لمواجهة هذا الاقتصاد الحربي، وذلك من خلال دمج الجماعات المسلحة داخل مؤسسات الدولة. ومع ذلك فإن غياب احتكار الدولة للقوة، والفوضى التشريعية التي تحيط بالجماعات المتنافسة يعني أن مؤسسات الدولة هذه لا تملك إلا القليل من القيادة والسيطرة على الجماعات المسلحة، وهذا يعني في كثير من الأحيان أن الجماعات المسلحة لا تجمع الدخل من الدولة فحسب، بل أيضاً من خلال الطرائق المبينة أعلاه وعلى حساب المواطن العادي والشركات الشريفة.

إن نظام الأسد ينظر إلى عملية إعادة الإعمار كوسيلة لإعادة بناء نظام ما قبل 2011 من خلال توجيه التمويل من خلال وسطاء جدد ومخلصين وتمكين شخصيات أعمال جديدة. وبالتالي فهي ليست أداة للمصالحة الوطنية وليست أساس لنظام سياسي جديد أكثر حرية وتشاركية على النحو المأمول دولياً بشأن إعادة الإعمار بعد انتهاء الصراع. وبينما يتمتع نظام الأسد بمزيد من القيادة والسيطرة على المتعاقدين معه، فإننا لن نجد هذا لدى حكومة الوفاق الوطني في ليبيا المدعومة من الأمم المتحدة في طرابلس. وبشكل عام فإن لجماعات اقتصاد الحرب مصالحها الخاصة التي يجب أن تحسب في أي محاولات لإعادة بناء الدولة وإقامة نظام دائم لفترة ما بعد الحرب التي يتم التحضير لها في المستقبل القريب.

إن صعود نخب اقتصاد الحرب في ليبيا وسوريا سيكون له انعكاسات مهمة على المستقبل، والأهم من ذلك أن نخب اقتصاد الحرب لا تزال خارج جهود السلام التي تتم حثيثاً بوساطة دولية، إلا أن مصالحها تزداد قوة، مما يحتم إدماجها في أي تسوية سياسية مستقبلية. فإذا كانت الحرب الأهلية تنتهي ضمن تسوية تفاوضية أو انتصار عسكري، فإن الجهات الفاعلة المحلية لديها حوافز قليلة للتخلي عن المكاسب الاقتصادية في زمن الحرب، ويستحق هذا الاستنتاج أن نهتم به فعلياً عند دراسة التوجهات الحالية لمدى دعم المجتمع الدولي لجهود إعادة الإعمار في سوريا، والتي باتت الشغل الشاغل في الآونة الأخيرة.

٣ مشاهدات٠ تعليق

أحدث منشورات

عرض الكل

Commentaires


bottom of page