top of page
بحث

الليرة السورية ... بين تلاعب الإنقاذ، وعبثية الرفض

صورة الكاتب: محمد حسن أطرشمحمد حسن أطرش

الليرة السورية

من بين كل العوامل الدراماتيكية التي رسمت اللوحة المعقدة جداً للحرب السورية، لا شيء كالليرة السورية يبرز حجم التناقضات الهائل وكمية التجاذبات العنيفة التي خضعت لها مفردات النسيج السوري – بما فيها الاقتصاد – خلال هذه الحرب التي أشعلتها انتفاضة الشعب السوري منذ ست سنوات ونيف. وكالأرض والبشر والحجر، كان مقدراً لليرة السورية أن تنال نصيبها من الدمار والانهيار بوقوفها أيضاً بين طرفي الصراع، بين نظام يتلاعب بها لتحقيق مكاسبه الخاصة، ومعارضة تحاول رفضها وتحجيمها باعتبارها مكوناً من مكونات الخصم وعموداً من أعمدة تثبيته.

منذ بدايات الحرب وتفاقم الأزمة، عمد النظام السوري إلى سلسلة من الإجراءات التي ظاهرها حماية اقتصاد البلاد، وباطنها حماية مصالح أركانه وحاشيته المقربة واستثماراتهم الهائلة داخل سوريا وخارجها. ففي محاولاته المتواصلة لرفع سعر صرف الليرة السورية أمام الدولار، ظل المصرف المركزي السوري – الذي هو ألعوبة بيد أركان النظام - يتلاعب بسياسة الاحتكار والإغراق للسوق ليضبط الموازين كما يحلو له. والمراقب الاقتصادي الخبير لسياسات المصرف سيجد أنها أبعد ما تكون عن الشفافية المالية أو عن سياسة الموازنة التلقائية بين العرض والطلب، بل هي تعمل على ضبط كميات الليرة السورية والدولار في السوق بقرارات احتكار وإغراق متعاقبة، ممتنعاً أو متأخراً عن تنفيذ سياسات فعالة لتحسين قيمة الليرة السورية خلال السنوات الماضية، لا بل تعمده إتخام السوق بطباعة المزيد من العملة السورية وضخها في السوق، رافعاً بذلك مستوى التضخم إلى حدود قصوى.

يرى بعض المحللين بأن انهيار سعر صرف الليرة خلال السنوات الماضية كان مناسباً للنظام الذي استمر في دفع رواتب الموظفين من دون زيادة تذكر عليها بالليرة السورية مستفيداً هو وحده من فرق العملة الهائل مع الدولار، في حين حرص على احتكار الدولار في الخزينة. فأرباح النظام من اللعب بسعر صرف الليرة كانت خيالية خلال السنوات الماضية، وفي الوقت ذاته يحاول الآن ضبط السوق على إيقاع "انتصاراته العسكرية" وإعطاء احساس زائف بنهاية الأزمة، ولكن مجدداً على حساب السوريين.

وعلى سبيل المثال، فإن الأيادي الخفية المتحكمة بالمصرف المركزي وحلفائه باعوا الدولار في اندفاعاته المتتالية محققين خلال شهر نيسان وحده من عام 2015 أرباحاً تتراوح بين 10 سنتات و25 سنتاً عن كل دولار باعوه خلال الارتفاع بالنتيجة باعوا الدولار بـ 320 ليرة وعادوا ليستعيدوه بعد ذلك بـ 248 ليرة، والفرق أكثر من 80 ليرة لكل دولار! هذا ما حدث عملياً وفعلياً، ولا يمكن القول إن آلية اقتصادية ما لعبت هذا الدور لحماية الاقتصاد إطلاقاً، فالمستفيد الوحيد كان عمالقة الاقتصاد من أركان النظام، والضحية كالعادة كان الشعب السوري العادي وبالأخص أصحاب الرواتب الذين تتراوح رواتبهم مابين 40 إلى 70 دولاراً، هؤلاء هم الذين يدفعون الثمن في كل مرة ليربح عمالقة الاقتصاد المحميون بالنظام الأمني الآمر عملياً لما يسمى مصرف سوريا المركزي. والمفارقة أن الأسعار حتى إذا انخفضت لا تعود إلى سابق عهدها! ففي فترات عودة انتعاش الليرة - إن جاز لنا التعبير – لم تتغير الأسعار ولم تنخفض الكلف، فدفع المواطن ضريبة التلاعب بالليرة مضاعفة.

وفي هذا الشأن كشف رجال أعمال سوريون لصحيفة (الفايننشال تايمز) البريطانية أن التجار المقربين من الحلقة الضيقة للأسد والذين يتحكمون في السوق، عمقوا خسائر الليرة عمداً عند قيامهم بإغراق السوق بالعملة السورية مقابل امتصاص ما بها من عملة صعبة يحولون إليها إيراداتهم الضخمة، استعداداً لانهيار آخر لليرة أو لمغادرة البلاد. وأفادت الصحيفة أيضاً أن رجال أعمال محليين فضلاً عن مسؤولين من النظام هم أكبر المستفيدين من الفارق في أسعار الصرف التفضيلية المتدنية التي تمنح لهم من قبل النظام نفسه.

بعد وصول الليرة إلى 630 أمام الدولار في منتصف أيار من عام 2016 تدخل وقتها المصرف المركزي مخفضاً سعر الصرف بشكل سريع وخلال أيام قليلة ليعود السعر فيستقر عند حدود 485 ليرة للدولار الواحد فيما يسمى "السوق السوداء"، وبذلك يكون سعر السوق والسعر الرسمي متطابقان تقريباً للمرة الأولى خلال السنوات الخمس الماضية. وقتذاك هلل الإعلام الرسمي السوري لإنجازات المصرف المركزي بالتخفيض، وبات حاكم المصرف (أديب ميالة) مزهواً بأن السلطات النقدية قادرة على تخفيض السعر وهي المتحكم الأساسي بالسوق. ولكن بالرغم من ذلك فإن تهليل الإعلام الرسمي بـ "الانتصار على الدولار" لم يمنع السوريين من التساؤل: إذا كنتم قادرين على تخفيض سعر الصرف فعلاً، فلماذا لم تفعلوا ذلك حتى الآن، ولماذا تركتم أحوال السوريين تتردى دون أن تفعلوا أي شيء؟

أما على الضفة المقابلة، اعتبرت أطياف عديدة في المعارضة السورية الليرة السورية مكوناً من مكونات النظام بل ودعامة أساسية تقويه وترسخ شرعيته داخلياً وخارجياً، مما حدا بهم إلى اتخاذ تصرفات ضدها أقل ما يمكن أن توصف به أنها عبثية وساذجة. في الواقع، إن مبدأ محاربة المعارضة لليرة السورية يشكّل عملة ذات وجهين: وجه محقّ، ووجه غير محقّ! وجه الحق في محاربتهم لليرة يأتي بسبب كل ما سبق وتحدثنا عنه أعلاه حول الاستغلال الشنيع للنظام لتلك الليرة التي فقدت قيمتها في الواقع وباتت مجرد ألعوبة يستخدمها أركان النظام لتحقيق مكاسبهم الخاصة، في الوقت الذي لم تعد تلك الليرة تفيد المواطن السوري العادي بل تشكل عبئاً عليه. أما الوجه الغير محق للحرب على الليرة يأتي من حقيقة أن الليرة هي أولاً وآخراً ملك للشعب السوري ومكون من مكونات الهوية السورية، وليس ذنبها أن النظام اختطفها واستخدمها أداة ضد الشعب كما فعل مع أشياء كثيرة ليس أقلها جيش البلاد بحد ذاته.

ولعل أقصى ما ذهبت إليه المعارضة في سياق محاربتها لليرة كان من خلال ما حدث أيلول من عام 2015 عندما تم تشكيل ما سمي وقتذاك بـ (اللجنة السورية لاستبدال عملة التداول في المناطق المحررة) التابعة للمعارضة السورية، وذلك في مدينة حلب. وأصدرت تلك اللجنة بياناً قررت فيه البدء بتداول الليرة التركية في المناطق الخاضعة لسيطرة المعارضة، بهدف الضغط اقتصادياً على النظام وللحد من تحكمه باقتصاد مناطق المعارضة. وقد أثارت هذه الخطوة الكثير من ردود الفعل التي انقسمت بين مؤيدين يرون فيها خطوة أكثر من ضرورية، ومعارضين يرون فيها تهديداً للسيادة الوطنية وهدماً للاقتصاد الوطني الذي هو ملك لسوريا ولشعبها لا لنظام الأسد.

بالرغم من ذلك لم توفق تلك اللجنة إلى متابعة عملها كما رُسم لها وقتذاك، وتعثر قرارها هذا كثيراً بالرغم من دعم بعض الهيئات المدنية منها والعسكرية لهذا القرار، وبقيت مناطق المعارضة تعيش تخبطاً وتفاوتاً في استخدام العملة المتداولة التي تنقلت بين الدولار الأمريكي والليرة التركية ... والليرة السورية بطبيعة الحال، والتي ظلت منتشرة ومتداولة بين الناس الذين لم يكفوا لحظة عن التنقل بين كل من مناطق سيطرة النظام ومناطق سيطرة المعارضة.

طبعاً تخللت تلك المحاولات اليائسة من قبل بعض أطراف المعارضة لمحاربة الليرة بعض "زوابع" الرفض المختلف الصور والأشكال بين كل فينة وأخرى، ولعل أبرزها ما أصدرته بعض الهيئات المدنية والعسكرية في بعض مناطق سيطرة المعارضة من قرارات ترفض – بل وتعاقب – استخدام الورقة النقدية من فئة (ألفي ليرة) والتي تم إصدارها أوائل العام الجاري، وتحمل صورة رأس النظام السوري (بشار الأسد). حجة بعض الخبراء من أولئك الرافضين كانت أن هذه الورقة فارغة اقتصادياً وليس لها رصيد حقيقي من الذهب أو العملة الصعبة، إلا أنه من الواضح والجلي أن هذا الرفض كان معنوياً أكثر بكثير من أي أسباب أخرى، كما أن رفض تداول ورقة نقدية بعينها لم يقدم أو يؤخر من حقيقة التداول بالعملة نفسها، مما يجعل هذا الرفض من الأساس خاوياً وعبثياً ولا مضمون له.

وهكذا تستمر مأساة الليرة السورية حتى يومنا هذا، بين نظام يتلاعب بها زاعماً إنقاذها، ولاهمّ له إلا تحقيق مكاسب حاشيته من خلالها، وبين معارضة تحاول محاربتها وشجبها، مدفوعة بأسباب عاطفية ومعنوية أساساً، ومتخذة خطوات عبثية غير مدروسة لا تؤثر أصلاً في تماسك النظام، ولا تؤدي إلى مزيد من التهاوي والإيذاء للشعب السوري وسيرورة حياته، ذلك الشعب الذي دفع ولايزال أثماناً باهظة إزاء تجاذبات هذه الحرب الضروس التي أكلت – على مدار ست سنوات – كل أخضر ويابس في هذه البلاد المنكوبة.



٣ مشاهدات٠ تعليق

أحدث منشورات

عرض الكل

Comments


bottom of page