top of page
بحث

طرطوس ... هل هي العاصمة الاقتصادية القادمة؟

صورة الكاتب: محمد حسن أطرشمحمد حسن أطرش

طرطوس

بصعوبة بالغة تمكن (حسان) من تجاوز الحواجز العسكرية التابعة لنظام الأسد على طول الطريق من مدينته حلب إلى مدينة طرطوس في جنوب الساحل السوري، فحسان كان مطلوباً للأجهزة الأمنية لكونه ناشطاً مدنياً معارضاً للنظام، ولو لم تضطره ظروفه المادية القاهرة للخروج من حلب ليعمل في مصنع خاله المختص بأقمشة المفروشات، لما تكبد هول المخاطرة واحتمالات الاعتقال. طوال الطريق كان حسان يفكر في خاله الذي نقل منشأته الصناعية الضخمة من قلب المدينة الصناعية الجديدة في حلب، ليعيد تركيبها وتشغيلها في مدينة طرطوس، هرباً من أجواء الصراع المشتعلة في حلب منذ صيف 2012، ولطالما عارض حسان بشدة تصرف خاله، إلا أن تردي الظروف المعيشية في حلب، وحاجته للإنفاق على أبويه المسنين وشقيقتيه اللتين تدرسان في الجامعة، إضافة إلى تهاوي أحلامه فيما يتعلق بالحراك الثوري وما كان يحمله من أمل للشعب السوري بوطن ديمقراطي ناهض متحضر ... كل ذلك أجبره على البحث عن عمل مجز ٍ يمكنه من تحمل تكاليف العيش الباهظة، وتصادف أن خاله كان يحتاج إلى مبرمج محترف للإشراف على الوضع التقني في مصنعه، وحسان كان هذا المبرمج، إذ أنه يحمل شهادة الماجستير في الهندسة المعلوماتية.

ما إن وصل حسان إلى طرطوس، حتى فوجئ بالتحول الهائل الذي طرأ على المدينة، تلك المدينة التي زارها منذ عشر سنوات مضت، فوجدها مدينة صغيرة بسيطة قليلة السكان والازدحام والعمران، بينما هي اليوم مدينة كبيرة مكتظة مزدحمة الشوارع عامرة المنشآت، وازدادت دهشته أكثر وأكثر عند وصوله إلى مصنع خاله، إذ وجد هناك مدينة صناعية متكاملة هي نسخة طبق الأصل عن المدينة الصناعية التي كانت في حلب، والتي يشغلها أصلاً تجار وصناعيون غالبيتهم العظمى من حلب ودمشق ... فما الذي جرى؟

بداية علينا أن نعرف أن محافظة طرطوس ككل، هي المحافظة الوحيدة التي تمكن النظام من السيطرة عليها بالكامل طوال فترة الحرب السورية حتى اليوم، ولهذا الأمر أسبابه طبعاً، فالنسيج الطائفي للمحافظة – بالرغم من تنوعه – يضم أكبر خزان بشري مؤيد للنظام يغذي قواته المسلحة باستمرار، وحتى المناطق المعارضة للنظام ضمن المحافظة كبانياس والبيضا، تم قمعها منذ بداية الحراك الشعبي السوري في أوائل 2011 بشكل وحشي دام ٍ أجهض فوراً أي محاولة للإخلال بالتركيبة الأمنية للمحافظة. السبب الثاني هو الحدود الجغرافية وتضاريس المحافظة، حيث تشكل طرطوس الجزء الجنوبي من الواجهة البحرية لسوريا، ويمتد ساحلها لمسافة 90 كيلومتراً، وتحدها لبنان من الجنوب بشريط حدودي يبلغ طوله 30 كيلومترًا، إضافة إلى محاذاتها من الشمال مع محافظة اللاذقية، ومن الشرق مع محافظتي حمص وحماة، وقد شكلت جغرافية المحافظة عاملاً إضافياً ساعد في خروجها من معادلة الصراع العسكري، إضافة إلى أن معظم القرى والبلدات المحيطة بها من المحافظات الثلاثة (اللاذقية وحمص وحماة) يقطنها مواطنون مؤيدون للنظام، الأمر الذي حصنها من أي هجمات أو معارك خلال الأعوام الماضية، كذلك فإن تضاريس المحافظة الوعرة واستيطان آلاف من سكانها في القرى الجبلية التابعة لسلسلة جبال اللاذقية، جعل لقاطنيها حدودًا طبيعية وشريطاً دفاعياً صلباً في وجه أي محاولة لتقدم المعارضة.

السبب الثالث والأهم، هو وجود القاعدة الروسية على شواطئها، إذ تضم شواطئ طرطوس على البحر الأبيض المتوسط القاعدة الرئيسية للبحرية السورية، والتي تحتوي على سفن وغواصات وزوارق حربية بإمكانيات متواضعة بحسب تقرير موقع الأمن العالمي 2012، لكن روسيا إبان الاتحاد السوفييتي أنشات قاعدة بحرية لها عام 1971 – أي في نفس العام الذي تولى فيه حافظ الأسد مقاليد الحكم في سوريا - على شواطئ المدينة، وما لبثت أن جددت هذه القاعدة نشاطاتها بالتزامن مع مرسوم خطه بشار الأسد ببناء قاعدة عسكرية روسية دائمة في طرطوس عام 2008، واليوم تعتبر القاعدة العسكرية الروسية ذات أهمية بالغة لنظام الأسد، لاسيما بعد أن دخلت روسيا بكل ثقلها العسكري لتثبيت هذا النظام وسحق معارضيه، حيث تعتبر طرطوس هي الوجهة الأساسية والمدخل الرئيسي لهذا الدعم العسكري الكبير، وقد ذكرت صحيفة (الغارديان) في سنة 2015 بأن دعم روسيا المستميت لنظام الأسد ينبع في الرغبة منها للحفاظ على قاعدتها العسكرية في طرطوس، الأمر الذي يعزز بدوره بقاء المحافظة خارج دائرة الصراع أيضًا.

كل تلك الأسباب السابقة، جعلت من طرطوس مناخاً آمناً للعمل والمعيشة في وقت لم يبق مكان في سوريا إلا وأشتعل بنيران الحرب المدمرة حتى في كل من العاصمتين حلب ودمشق المكتظتين بالمنشآت والاستثمارات ورجال الأعمال، الأمر الذي دفع بكل أولئك المستثمرين والصناعيين ورجال الأعمال إلى الانتقال بكل أعمالهم ومشاريعهم إلى طرطوس، كونها الأكثر أمناً واستقراراً وبعداً عن بؤر الصراع. وبالرغم من مزاعم سكان المحافظة (الأصليين) بتردي الأوضاع الاقتصادية في المحافظة وإهمال حكومة النظام لها، إلا أن هجرة تجار وصناعيي ومستثمري كل من حلب ودمشق إلى المحافظة أحدث طفرة هائلة بدت واضحة لحسان ما إن وطئت قدماه أرض المدينة.

صناعة الأدوية على سبيل المثال باتت متركزة بشكل رئيسي في محافظة طرطوس بعد انتقال معظم شركات الأدوية الكبرى في دمشق وحلب إلى المحافظة، وقد أكد محافظ طرطوس (صفوان أبو سعدى) عام 2016 بأن طرطوس ستكفي حاجة سوريا من الأدوية من الآن وصاعداً. كما تحتل الزراعة مكاناً بارزاً في اقتصاد المحافظة، ويكفي أن نعرف أن طرطوس قد صدرت ما قيمته أكثر من 12 دولار من الزهور بحسب تقارير تعود لعام 2014، ناهيك عن باقي المحاصيل الزراعية من خضار وفواكه والتي لازالت تصدر إلى دول الخليج حتى يومنا هذا. كما أن إقامة المنشآت والمعامل لا تتوقف أبداً، ويتحدث محافظ طرطوس عن إنشاء 15 منطق صناعية كبيرة ضمن المحافظة تضم أكثر من 175 مشروعاً تتراوح ما بين الصغيرة والمتوسطة. وليس القطاع السياحي مستثنىً من هذه الطفرة الاقتصادية، فحركة العمران والنهضة الاقتصادية أحدثت العديد من المرافق السياحية في المحافظة، ما شكل لها – إضافة إلى أمنها واستقرارها – وجهة سياحية مفضلة داخلياً وخارجياً.

بالرغم من كل ذلك، لم يقتنع سكان المحافظة بتلك الطفرة الاقتصادية للمحافظة، بل أحسوا بشكل أو بآخر بأنهم غير معنيين بهذه الطفرة وغير مستفيدين منها، وأنها موجهة ومدارة أساساً بواسطة طبقة رجال الأعمال والمستثمرين الحلبيين والدمشقيين الذين شكلوا (استعماراً) حقيقياً للمحافظة على حساب سكانها الأساسيين، وغيروا وجهها ضمن طفرة اقتصادية لا ناقة لهم فيها ولا جمل، إضافة إلى النزيف المستمر الذي تعاني منه المحافظة المؤيدة لنظام الأسد برحيل شبابها الواحد تلو الآخر بلا توقف ليكونوا وقوداً لآلة الحرب التي يصر النظام على إشعالها على طول الأرض السورية وعرضها، كل تلك الأسباب أحدثت حالة من الغليان كادت تفكك التركيبة المحكمة للقاعدة الشعبية الأمتن المؤدية للنظام في تلك المحافظة الناهضة ... ما دفع النظام لإرسال وفد حكومي عالي المستوى إلى المحافظة في خريف عام 2017 برئاسة رئيس الحكومة نفسه إلى المحافظة، محملين بوعود هائلة ومشاريع ضخمة وكميات كبيرة من الأموال، في محاولة من النظام لإخماد نقمة أبناء المحافظة.

زيارة رئيس حكومة النظام (عماد خميس) إلى طرطوس - وهي بالمناسبة زيارته الثالثة منذ توليه رئاسة الوزراء - كان حتمياً أن تبدأ بتقديم ما وعدت به خلال الزيارات السابقة، سيما وأن أقصى ما يحلم به أبناء هذه المحافظة هو تصريف دم أبنائهم ببعض التعويضات المالية والوظائف الحكومية، لهذا انقسمت زيارة خميس والوزراء المرافقين له إلى شقين، الأول هو الإيحاء بأن النظام لا يسعى لأن يخص طبقة ذوي القتلى ببعض الامتيازات وإنما يسعى لخدمة المحافظة بالكامل، وذلك يضمن له استمرار أبناء المحافظة بتقديم أرواحهم من أجله، مع الاحتفاظ بولاء التجار والصناعيين المهاجرين من محافظات أخرى. أما الشق الثاني، فهو تقديم امتيازات فعلية وحقيقية لذوي القتلى من خلال تقديم فرص عمل لهم وقروض ميسرة لتأسيس مشاريع صغيرة. ولعل المتابع لنشاطات رئيس الحكومة في طرطوس والوزراء المرافقين له، لا بد أن يشعر أنها تدخل في نطاق الحركات الاستعراضية، أو ما يسمى في علم الاقتصاد بالحركات الزائدة التي لا تخدم العملية الإنتاجية، فجميع تصريحات الوزراء هناك لم تخرج عن إطار ما يتم تداوله عبر وسائل الإعلام يومياً من حديث عن الواقع الاقتصادي والخسائر الفادحة التي تعرض لها الاقتصاد السوري منذ ست سنوات وحتى الآن، بالإضافة إلى الوعود بوجود آفاق حقيقية لتحسين الوضع الاقتصادي بالبلد، ولكن الجديد هذه المرة هو ما حملته تصريحات خميس ذاتها وما قدمه من أموال لهذه المحافظة والتي بلغت بحسب وسائل إعلام النظام أكثر من 300 مليار ليرة سورية - أي ما يعادل 15 بالمئة من موازنة سوريا - شملت جميع القطاعات الاقتصادية والخدمية في المحافظة من ماء وكهرباء وصحة وتعليم وزراعة وصناعة وملاحة وسياحة. واللافت أكثر هو الحالة التي أراد من خلالها النظام الإيحاء بأنه يختصر سوريا كلها بمحافظة طرطوس، وهو ما يعني بحسب التجربة أن المحافظة لايزال مطلوباً منها تقديم المزيد من القتلى فداءً لهذا النظام، وأنها ستغدو بشكل أو بآخر: العاصمة الاقتصادية الجديدة لسوريا.

طرطوس اليوم باتت الشغل الشاغل لإعلام النظام الرسمي، متخذاً إياها واجهة أمام العالم تظهر اهتمامه المشوه المبتور بإعمار سوريا وتحقيق نهضتها ورفاهها. ولا يكاد يمر يوم إلا ونسمع خبراً عن افتتاح مشروع أو منشأة أو مركز خدمي ما. وعلى سبيل المثال، نفذت مديرية الخدمات الفنية في طرطوس عشرات المشاريع الخدمية في مجالات الطرق والأبنية والتخطيط العمراني، ودشن رئيس الحكومة بنفسه مشروعاً طرقياً ضخماً على أوتوستراد (طرطوس – اللاذقية) بقيمة إجمالية بلغت 232 مليون ليرة، كما افتتح مبنى فرع المؤسسة العامة للمواصلات الطرقية بقيمة إجمالية تقدر بـ 87 مليون ليرة، إضافة لمشاريع تنموية أخرى، كما تم بناء 18 مدرسة للتعليم الأساسي والثانوي، ووضعت قيد الاستثمار من أصل 52 مشروعاً قيد التنفيذ، إضافة إلى تأهيل وإكمال بناء عدة مدارس في المحافظة وتنظيم ثلاثة عقود لتأمين مقاعد مدرسية لمصلحة مديرية التربية. كما تم افتتاح معمل لإنتاج قضبان الحديد بقيمة تتجاوز 1.5 مليار ليرة، وقوة عاملة تصل إلى 210 عامل، ومشروع لتعبئة وتخزين الحبوب وإقامة صوامع بقيمة 300 مليون ليرة. ولأول مرة يصدر رئيس النظام السوري مرسومًا بتأسيس معهد للّغات في محافظة طرطوس، حيث أصدر مرسوماً يقضي بإحداث المعهد العالي للغات في جامعة طرطوس، ليكون بذلك ثاني معهد عال للغات في سوريا بعد العاصمة دمشق. اهتمام حكومة النظام انتقل أيضاً إلى المجال السياحي، إذ قررت وزارة السياحة إقامة مدينة سياحية بتكلفة تتجاوز 20 مليار ليرة، تحوي أبراجًا سكنية وسياحية ومقاهي ومطاعم، وذهبت الوزارة أبعد من ذلك في الاستثمار بالمجال السياحي المحافظة، إذ كشف وزير السياحة عن نيتهم إنشاء أربع مناطق حرة سياحية في طرطوس.

كل تلك العوامل السابقة من دعم ضخم يوجهه النظام، وهجرة من كبار مستثمري البلاد إلى المحافظة، وأمان تام تتمتع به المحافظة، خولها لتكون بحق أشبه بعاصمة اقتصادية قادمة لسوريا، سوريا التي يرسم لها النظام وحلفاؤه خريطة مغايرة لسوريا التي عرفناها، جغرافياً واقتصادياً وديمغرافياً ... وهذا ما دفع بحسان للفرار بعيداً جداً عن هذه الأجواء المشحونة بعد شهر واحد من وصوله إلى طرطوس، إذ لم يستطع بميوله المعارضة للنظام تحمل هذا الكم الهائل من الزيف والخداع والتغيير الاجتماعي والديمغرافي الذي يمارسه هذا النظام بالرغم من كل الواجهة الوردية التي يحاول تجميل قبحه بها من خلال النهضة الزائفة في طرطوس، الأمر الذي جعله يسافر إلى تركيا بعد أن سلك طرقاً معقدة جداً ليصل إلى هناك، وهو اليوم مهندس برمجيات ناجح في واحدة من كبرى الشركات السورية في تركيا.


٣ مشاهدات٠ تعليق

أحدث منشورات

عرض الكل

Comments


bottom of page