top of page
بحث

الوجه الآخر لـ "البطالة"

صورة الكاتب: محمد حسن أطرشمحمد حسن أطرش


البطالة

(أحمد) شاب سوري في منتصف العقد الرابع من عمره، تراه منذ ساعات الفجر الأولى واقفاً وسط البرد والظلام بانتظار الحافلة التي يبدأ معها يومياً رحلته الطويلة إلى المعمل الذي يعمل فيه على الجانب الآخر من إسطنبول. ساعتان كاملتان على الطريق، ومن حافلة إلى اخرى، حتى يصل إلى معمل الأقمشة الذي يعمل فيه حمّالاً، حيث يفرغ أو يملأ مع بعض من زملائه عشرات الشاحنات الرائحة والغادية إلى مقر المعمل.عملٌ قاس شرس مرهق يمارسه يومياً على مدار 12 ساعة كاملة لا استراحة فيها إلا لساعة واحدة لا غير ! مقابل راتب لا يكاد يغطي آجار وفواتير منزله، ويقيه هو وأفراد أسرته الأربعة غيلة الجوع بالحد الأدنى.

(عماد) شاب سوري آخر أتى منذ عام تقريباً إلى بيروت، وانتهى به المطاف مع مكواة في ورشة لإنتاج الألبسة، حيث يقضي ما لايقل عن 15 ساعة يومياً في كيّ أكوام الألبسة بلا لحظة توقف واحدة ! هو لا يجرؤ أصلاً على إلتقاط أنفاسه، فهو يعرف تمام المعرفة أن صاحب الورشة ينتظر أدنى هفوة منه ليصرفه ويستبدله بالعشرات ممن ينتظرون العمل، عندها لا يدري عماد كيف سيستطيع تأمين إيجار بيته وإعالة والديه المسنين وتأمين العلاج لهما. لذلك يضطر للصبر وتحمل ضغط العمل الهائل.

(رنـــد) فتاة ســـــورية لا زالت في ميعة الــصـبـا، تعمل يومياً لمدة عشر ساعات في معمل للحلويات في إحدى أحياء العاصمة الأردنية عمّان، بلا عطلة أسبوعية، وباستراحة لمدة عشر دقائق فقط يومياً لا تكاد تكفي لشرب كوب من الشاي، وطبعاً مع راتب هزيل تافه لا تحصل منه إلا على مصروف المواصلات اليومي، والباقي يذهب لدفع نصف آجار المنزل، بينما النصف الآخر تدفعه اختها التي تعمل بدورها في ورشة للخياطة، أما عمل والدها في أحد المطاعم الشعبية فبالكاد يغطي قوت يـومهـم.

صور متكررة بتنا نراها بشكل يومي منذ أن ألمّت محنة اللجوء بالشعب السوري الشريد، صور قد تؤثر فينا أو لا تؤثر، بل وربما عانى أحدنا من إحداها لفترة من الفترات. ولطالما كانت ظروف العمل الصعبة ومقارعة متطلبات المعيشة أشياءاً من صميم حياة المواطنين الأصليين في العديد من البلدان أساساً، فما بالك باللاجئ السوري؟ ولكن ... ماذا سيكون موقفك، وكيف ستنقلب او ستتغير مشاعرك، إذا أدركت حقيقة أن (أحمد) طبيب مختص بالجراحة العظمية، و(عماد) مهندس ميكانيك مختص بالمعادن، و(رند) كانت طالبة متفوقة في الصف الأول الثانوي اضطرت لترك الدراسة لتساعد في إعالة أسرتها؟؟؟

من المفاهيم السائدة في مجتمعاتنا المعاصرة أن البطالة هي عدم إيجاد العمل للقادرين عليه، وتقاس معدلات البطالة في المجتمعات بعدد أولئك الذين لا عمل لهم في الوقت الذي يحتاجون فيه إلى هذا العمل. هذه هي البطالة بمفهومها السائد وتعريفها العام، وطرق معالجتها والتعامل معها تختلف من مجتمع لآخر، وبحسب النظام الاقتصادي لكل دولة على حدة، ومن المسلمات البديهية أن معدل البطالة في أي بلد يتناقص بإيجاد عمل – أيُّ عمل كان – لأفراد المجتمع الراغبين به والمستعدين له (فيزيائياً) على الأقل.

لكن وجهاً آخر للبطالة قلما يعيره أحد من العامة او الخاصة أي اهتمام، وجه أقبح وأسوأ من الوجه الأساسي للبطالة ! فعندما يكون أساس مكافحة البطالة هو تأمين أي عمل كان لكل فرد باحث عنه، دون النظر لطبيعة هذا العمل أصلاً، ودون النظر إلى الأسباب التي دفعت أولئك الباحثين للقبول بأي عمل كان، متجاهلين اختصاصاتهم الأساسية التي قد تكون في قمة التخصصات الأكاديمية، عندها ... نكون قد فرضنا واقعاً جديداً من البطالة، بطالة جديدة بوجه أكثر قتامة وألماً من البطالة في مراحلها الأولى.

فالبطالة لا تعني بالضرورة كونك عاطلاً عن العمل، بل هي كثيراً ما تعني أن تعمل في عمل لا يناسب اختصاصك وشهاداتك ومهاراتك، وكثيراً جداً ماتعني أن تعمل في أشغال شاقة لا تكاد تحصل من ورائها إلا على النذر اليسير من متطلبات المعيشة، راضخاً لكل الشروط التعجيزية فقط بسبب الظروف الصعبة التي تعانيها. وعندها، تتحول البطالة بشكل أو بآخر إلى عبودية حقيقة !

مع محنة لجوء السوريين إلى دول الجوار بأعداد ضخمة لم تتمكن تلك الدول من استيعابها بالرغم من كل الجهود المبذولة، فوجئ السوريون بأنفسهم وسط محنة تلبية متطلبات المعيشة الباهظة في تلك البلدان بأي طريقة مشروعة متاحة، وهذا ما قلّص أمامهم رفاهية اختيار العمل الملائم لكل واحد منهم. وبصورة أكثر تحديداً، لم يعان أصحاب المهن والحرف من الشباب أي مشكلة تذكر في متابعة ذات أعمالهم في بلدان اللجوء – إن لم يكن بصورة أكثر راحة وتنظيماً أيضاً – إنما دفع فاتورة الوجه القبيح للبطالة كل من الجامعيين، والأطفال، والنساء ! فالجامعيون لم يتمكنوا من إيجاد وظائف مناسبة لتخصصهم الجامعي، وذلك لأسباب عدة أهمها اختلاف اللغة، والإجراءات القانوينة الصعبة لتعديل الشهادات وقوننة العمل. والأطفال اضطروا لترك دراستهم للانخراط في أعمال شاقة بخسة الأجور، فقط لإعانة ذويهم. والنساء اللواتي كن غالباً ربات منازل أو معلمات او موظفات حكوميات في سوريا، اضطررن أيضاً للعمل في غابات الصناعة الظلماء مقابل اجور زهيدة أيضاً.

يروي الدكتور (أيمن خسرف) وهو صيدلاني سوري وناشط اجتماعي مقيم في تركيا حالياً، كيف أنه في وجد في رحلته الطويلة لتشبيك الأطباء السوريين في تركيا ضمن كيان رسمي واحد حالات مؤلمة يحياها الأطباء السوريون في الولايات التركية المختلفة، فقد فوجئ مرة في أحد المدن التركية النائية بجراح أعصاب سوري وهو يعمل في تكسير الزيتون! ويبذل الدكتور أيمن اليوم جهوداً جبارة للتشبيك واقعياً ورقمياً بين كل الأطباء السوريين في كل دول المهجر، ويقول: الحل الوحيد لتلك الحالات المؤسفة من البطالة هو جمع كل الأطباء في كيان واحد يمثلهم وينقل معاناتهم أمام السلطات الرسمية، أما التفرق والتشرذم فلن يفيدنا في شيء، ولن يجعل أي أحد يلتف إلى معاناتنا.

لعل الدكتور أيمن قد قدم جانباً من جوانب الحل إزاء هذه المأساة التي يعاني منها شريحة كبيرة من السوريين والسوريات، ولكن مع ضرورة الجانب الاجتماعي من حل هذه المشكلة، يبقى الجانب الحكومي من الحل معانياً من فراغ كبير في هذا الصدد. بكل تأكيد نحن لا ننكر المسؤولية الكبيرة الملقاة على عاتق دول الجوار السوري في حمل عبئ ملايين اللاجئين السوريين وكل ما يرافق وجودهم من إشكالات ومتطلبات قانونية واجتماعية ومادية، ولكن خطوات بسيطة جداً من قبل الحكومات، قد تمنع معاناة بضعة آلاف من الجامعيين والأطفال والنساء الذين يرزحون تحت عبودية الوجه الآخر للبطالة. خطوات في مجال تسهيل الإجراءات القانونية للعمل ضمن الاختصاص، وتقديم معونات خاصة للأطفال والطلاب لكي لا يضطروا لترك الدراسة والعمل بدلاً منها، وتقديم تدريب خاص للسيدات لكي يعملن في مجالات محددة فقط مناسبة لهن، كالطبخ والأشغال الفنية اليدوية. ولا بأس من إجراء مسوحات دورية على المناطق الصناعية في المدن الكبرى للوصول إلى الحالات الصعبة من اللاجئين العاملين في أشغال غير مناسبة لهم سنّاً أو جنساً أو دراسةً.

هذه الجهود الحكومية إذا تكاملت مع الجهود المجتمعية من تشبيك وتأطير ضمن فعاليات وهيئات، سيكون لها مفعول السحر على الحال المأساوي الذي تفرضه البطالة بشتى وجوهها على شريحة كبيرة من السوريين. إذ أن الانسانية – والانسانية أولاً وآخراً – هي ما يجب ان يدفعنا للغيرة على جامعيّ يعاني شظف العمل اليدوي الشاق، وعلى الطفل الذي ترك مقاعد دراسته للعمل، أو على السيدة التي تركت عزها ومكانتها الأثيرة وسط أسرتها لتعمل في المعامل. الانسانية هي ما يجب ان يدفع الجميع – حكومات ومجتمعات – لمحاربة البطالة بشتى أوجهها، وبالأخص ... ذلك الوجه القبيح الدميم الذي فرض نفسه على السوريين في محنتهم، وكأنه لم يكفهم كل ماعانوه من ويلات الحرب والغربة، ليعانوا مجدداً مع الوجه الآخر للبطالة !


مشاهدتان (٢)٠ تعليق

أحدث منشورات

عرض الكل

Commenti


bottom of page