
دعوني أحدثكم قليلاً بخصوص ما يسمى بالمرسوم رقم 16 ...
لقد أثار هذا المرسوم موجة عارمة من السخط والاستنكار من قبل السوريين بجميع أطيافهم ، من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار ، وداخل كل من المعسكرين المؤيد والمعارض . فالمؤيدون عارضوه لأنهم رأوا فيه - على حد تعبيرهم - تغوّلاً للمؤسسة الدينية في جميع مرافق الدولة بما لا يتلاءم مع الدولة المدنية العلمانية المعاصرة ، والمعارضون استنكروه لأنهم رأوا فيه تدجيناً للدين ومؤسساته من قبل نظام دكتاتوري قمعي شمولي يريد تسخير كل نواحي الحياة المجتمعية - بما فيها الدين - لصالح توطيد أركان حكمه وترسيخ عقيدته الفاسدة في الوجدان الجمعي السوري أكثر وأكثر .
بداية ً - وبالنسبة إليّ شخصياً - فأنا أمقت بشدة مشاركة مؤيدي نظام القرداحة المجرم في أي موقف مهما كان حتى ولو كانوا على حق ! وهي لعمري خصلة ذميمة في تكويني النفسي والفكري ، ولكنني عاجز تمام العجز عن التخلص منها !!! فكراهيتي لأولئك القوم لا يمكن أن تصفها الكلمات ، واحتقاري لمنطقهم في التفكير لا يوازيه إلا احتقاري لمجارير الصرف الصحي ومحتوياتها !
وبالرغم من ان حجتنا في استنكار هذا المرسوم - كمعارضين وثوار - مختلفة تماماً عن الحجة الكاذبة الواهية للمؤيدين والرماديين في استنكاره ، إلا أنني قررت أن يكون موقفي من هذا المرسوم هو الحياد التام ، لا لشيء إلا لأن الأمر لا يعنيني بكل أطرافه وبكل الحجج التي تطرح من كل الأطراف سواءاً لشجبه او تأييده ! ففي صراع (داعش) مع (قسد) على سبيل المثال ... لا يعنيني ان أنحاز لأحد الطرفين لأن كلاهما عدو لي ولثورتي ولبلادي ولأمتي ، بنفس المقدار وبنفس الدرجة وبنفس الخطر . وعلى ذلك يمكن قياس الموقف الذي يجب أن نتخذه من هذا المرسوم الأحمق ... لأن من أصدره عدو يريد الأذى للدين والأمة والوطن ، والسواد الأعظم الذي عارضه يعارضه لأنه يمقت كل ماله علاقة بالدين حتى ولو كان هذا الدين مدجناً ومفصلاً على مقاس أسياده في القرداحة !
ليس من الحكمة أن نشاطر قطيع المؤيدين والرماديين على حد سواء في استنكار هذا المرسوم حتى ولو كنا نستنكره لسبب آخر ، فمجرد استنكارنا له هوه تشارك مع هذا القطيع المعتوه الذي لطالما صفق لسفك دم السوريين الثائرين إن كان مؤيداً ، أو صمّ أذنيه عن جرائم النظام بحق إخوته إن كان رمادياً ! لا يجب ان يشرفنا كثوار ومعارضين أن نكون – ولو لمرة واحدة – مع أولئك المجرمين والجبناء في خندق واحد ضد أي أمر ... فـحـقـيـقـة المسألة هي أننا ضد هذا المرسوم لأن النظام المجرم هو من أوعز بإصداره ، أما هم ... فإنهم يعارضونه لأنهم يعارضون الدين ... وكل ماله علاقة بالدين !
هذا هو بيت القصيد الذي يجب أن نصل إليه وننفذ إلى أعماقه قبل أن نتخذ أي قرار بخصوص موقفنا من هذا المرسوم الأبله . فمع يقيني بأن هذا المرسوم وبالرغم من صبغته الدينية الهادفة للمصلحة العامة ، إلا أنه صادر من طرف نظام سفاح مجرم لا يعنيه الدين أساساً بل هو من أشد أعداء الدين ! ولم يوعز إلى وزارة أوقافه الفاسدة ومشايخ سلطته السفلة بإصدار هذا المرسوم إلا لنيته بث المزيد من سموم التشويه والتدجين لهذا الدين في كل مرافق المجتمع السوري ومظاهره ... مع كل هذا اليقين بذلك ، يجب أن نوقن بأن من عارض هذا المرسوم من طرف المؤيدين والرماديين لم يعارضوه إلا لسبيين ... سببان لولاهما لم جرؤ أحدهم على رفع صوته بالشجب والاستنكار أمام قرار يصدره نظامهم الذي يعبدونه ويسبحون بحمده إن كانوا مؤيدين ، أو يخافونه ويجبنون عن معارضته في أبسط الأمور إن كانوا رماديين .
السبب الأول والأكثر رسوخاً وتأصلاً هو ذلك المقت المجنون من قبل قطيع المؤيدين المجرمين والرماديين الجبناء لكل ماله علاقة بالدين ، وأخص بذلك الدين الإسلامي الحنيف على مذهب أهل السنة والجماعة ، ذلك الدين الذي هو دين الغالبية العظمى من سكان سوريا عموماً ، ودين ثوارها الذين سحقتهم آلة الموت القرداحية على امتداد سبع سنوات من عمر الثورة السورية الأخيرة ، ونصف قرن كامل من حكم القرداحة لسوريا بالحديد والنار والإرهاب عبر آل الأسد ومافيات الجبل . وإشارتي هنا إلى الدين الإسلامي ومذهب أهل السنة والجماعة ليست نهائياً من منطلق طائفي ، إنما اعتماداً على حقائق واضحة وأرقام مثبتة وبديهيات يعرفها أصغر طفل في سوريا !
كراهية أولئك القوم للدين الإسلامي الحقيقي الذي يمقتونه ويمقتون من يدين به – أي يمقتون السواد الأعظم من شعب سوريا – هو ما دفهم بالدرجة الأولى لمعاداة هذا المرسوم الذي رأوا فيه بسط سلطة لرموز هذا الدين حتى وإن كانت تلك الرموز عميلة وخائنة وخانعة لنظامهم السافل ! تلك الكراهية العمياء لمظاهر الدين الإسلامي هي ما أفرغ شحنة الحقد الهائل التي اطلقوا لها العنان بكل قذارة ونذالة عقب إصدار هذا المرسوم ، مدعين ان سوريا بذلك ستصبح ( إمارة وهابية ) بعد هذا المرسوم ، وكأن سوريا كانت ولا تزال هي (سويسرا) الشرق الأوسط في ظل حكم سفاحيهم واكابر مجرميهم ، وكأن أولئك المشايخ المهترئين المعتوهين المدجنين سيجرؤون على التحرك بحرف واحد خارج إطار الدين المشوه الذي فصّلته لهم أجهزة المخابرات القرداحية !
هنا نجد انفسنا أمام ثلاثة اطراف كل واحد فيهم أكثر سفالة وقذارة من الآخر ! نظام فاسد قمعي مجرم هدفه تشويه الدين وتدجينه لمصلحته ... مشايخ ورجال دين منافقين دجالين معتوهين ... وقطيع من المؤيدين والرماديين الذين يحملون إرثاً هائلاً من الحقد على الدين الإسلامي بكل رموزه ومظاهره حتى الشوهاء منها ! وباختصار مخلّ ، يمكننا القول أن كل الزوبعة التي قامت بسبب هذا المرسوم الأبله ، هي فقط مجرد سجالات بيزنطية بين تلك الأطراف الثلاثة ، تلك الأطراف التي هي يقيناً ودون أي جدال ... ضد الشعب السوري وثورته لأجل الحرية والكرامة .
ولكنني أجرؤ على القول بأن الطرف الأكثر بروزاً في كل هذه السجالات كان هو قطيع المؤيدين والرماديين ، بسبب كمية الحقد المسعور التي انفجرت دفعة واحدة ليس إزاء المرسوم بحد ذاته ، بل ضد ديننا وهويتنا وإرثنا الحضاري العريق الخالد كمسلمين وكشعب مسلم . وكأني بالنظام - الذي أصدر هذا المرسوم أصلاً – فرح ٌ أشد الفرحة بتلك الموجات الهائلة من الحقد والكراهية التي فجرها عامداً متعمداً بمرسومه هذا ، بل أكاد أتخيل بأنه لم يصدر هذا المرسوم إلا ليفرغ هذه الشحنات لدى قطعان عبيده من المؤيدين والرماديين ، ويغيظ بها السواد الأعظم من شعب سوريا الفخور بدينه المتمسك به . ولا تستغربوا إطلاقاً أن يقوم النظام بإلغاء هذا المرسوم قريباً ، فيكون بذلك قد أصاب عصفورين بحجر واحد ! أولاً يظهر للمجتمع الدولي – الساعي إلى تدجينه وتعويمه لإعادة أركان الحكم إليه عما قريب – أنه نظام ديمقراطي حر نزل عند إرادة شعبه وألغى هذا المرسوم الذي قوبل بموجة من الاحتجاج من قبل (الشعب) ... والشعب بالنسبة إلى النظام محصور فقط بقطعان العبيد من المؤيدين والرماديين ... هذا أولاً ، وثانياً – وكما أسلفت – يكون قد أفرغ شحنة المقت والكراهية والحقد لدى مؤيديه ، وأظهر هوية (سوريا) المشوهة الممسوخة التي يسعى حثيثاً وببطء إلى تكوينها ورسمها ... سوريا الفاسدة المنحلة الملحدة المنسلخة عن كل دين وخلق وحضارة ... سوريا الغابة المظلمة التي لا نعرفها ولا يعرفها آباؤنا وأجدادنا ... سوريا التي هي نسخة مكررة كبيرة عن قرداحتهم ومواخيرهم وحاناتهم وعقيدتهم الفاسدة في كل شيء ، المنحلة من كل خلق !
فبعد كل ذلك ... هل تجدون لائقاً بنا كمعارضين ان نكون في خندق واحد مع أولئك الرعاع المنحلين في رفضنا لهذا المرسوم حتى ولو كانت غاياتنا متباينة أساساً من هذا الرفض ؟ لا أعتقد ذلك ، ولست بذلك أدعو إلى تأييد هذا المرسوم الهزلي لا سمح الله ... إنما أدعو – كما قلت مراراً – إلى اتخاذ موقف الحياد منه ، والتفرج فقط على تلك المسرحية الهزلية التي أشعل فتيلها نظام القرداحة بكل خبث ولؤم ، وترك فيها كلاً من قطيعه الحاقد ومشايخه المنافقين يصطرعون كالكلاب المسعورة.
أما عن السبب الثاني والأهم في تلك الشجاعة المفاجئة والفورة الهائجة التي جعلت قطيع الأغنام من المؤيدين والرماديين يستأسدون على مرسوم أصدره نظامهم ... هو كون هذا المرسوم لم يصدر أصلاً باسم ربهم الأعلى بشار الأسد ! ولا من قبل أي واحد من أجهزتهم الأمنية أو مجالسهم السرية في أعالي الجبل ! ولو كان كذلك .... لما جرؤ أحدهم على التصدي له بحرف واحد !!! إنما الحقيقة التي لا يعرفها الكثيرون أن هذا مجرد مرسوم صادر عن مجلس الشعب باقتراح من الحكومة ... ومعروف لدى كل سوري حر شريف بأن كلاً من مجلس الشعب والحكومة في ( سوريا الأسد ) هي مجرد دمى بلهاء صورية لا قيمة ولا وزن لها في الدولة القرداحية ! وهي مجرد ( ملطشة ) لقطيع المؤيدين الذين لا يجرؤون على التطاول إلا عليها فقط ، متظاهرين بأنهم في دولة حرة وديمقراطية ، بينما لا يجرؤ أحدهم على المساس بعنصر أمن تافه جاهل ، بل وحتى إن هذا العنصر يتفوق في سلطته وأهميته على أي وزير أو عضو مجلس شعب !
وهكذا تظاهر قطيع المؤيدين والرماديين بأنهم ثوار وشجعان في وقوفهم ضد قطيع مشايخ النفاق الذي من ورائه مجلس نواب هزلي كرتوني وحكومة مهترئة لا صلاحيات لها ... كل ذلك في سبيل تفجير حقدهم الكامن ضد سوريا وشعبها وإرثها الحضاري العظيم الذي كان – ولايزال - الدين الإسلامي الحنيف أقوى وأنبل حارس له ، وكل ذلك بمباركة وتشجيع من مخابرات النظام ومجالسه السرية في أعالي جبال الساحل ، لتبقى معركة (المرسوم رقم 16) معركة قذرة بكل مفرداتها وأطرافها ، معركة يجب أن يترفع كل ثائر عن مجرد الإتيان بذكرها ، وهذا ما كنت قد عاهدت نفسي عليه منذ أن بدأت زوبعة تلك المعركة المقرفة وتفجرت على إثرها مجارير القرف والقذارة من الحقد الأسدي القرداحي ضد ديننا وإرثنا وحضارتنا وشعبنا ... لكنني وجدت نفسي مضطراً لكتابة ما كتبت لتحليل وجهة نظري كثائر حيال هذه المهزلة ، بعد أن وجدت طيفاً واسعاً من رفاقي الثوار ينجرفون ضمن تيار خاطئ إزاء موقفهم من كل ذلك .
هذا وقد بلغت ... اللهم فاشهد .
Comments